فى روايته "خريف البطريرك" يسجل لنا جابرييل جارسيا ماركيز وقائع نهاية حاكم صنعته آلة الطغيان الكريهة، وشكلته طبيعة العناد حتى مع الموت، فهو لا يريد أن يصدق نهايته، ولا يريد أن يرى شعباً مغايراً لهذا الشعب المختزن بخياله وهو يلوح له رافعاً صوره على جانبى طريق لم يمش فيه، ويسمع هدير هتافات لم تنطق بها الجماهير مناديةً له بالبقاء، صور وأصوات تحوم حول رأسه فى تسلط له نفس قوة وجبروت استبداده، حاكم يقول: فى عز خريفه: أنا الرب .. عاش أنا.. ويموت ضحاياه.. وفى النهاية يجد نفسه وجهاً لوجه مع الموت، لتبدو حياةً أخرى لم يكن البطريرك يراها إلا من قفاه.
وبطل ماركيز يمثل الطغاة بكل العالم الذين لهم نفس الملامح والقسمات، يتحدون الأزمان كما تحدوا المحكومين، يتنقلون داخل أوطانهم بطائرات تحلق بهم بعيداً عن الأرض والواقع، مواكبهم فى بعض النسخ داخل سيارات متخفية فى سواد، ومحاطة بمصفحات خوفاً من محكوميهم، حيث لا تختلف كثيراً عن مواكب قيادات المافيا، نسخ لا تعرف المواكب الشعبية الحقيقية، فشعوبهم لا تقف بالطريق بل تسكن خيالاتهم، وأصوات المطالبين ببقائهم لا تأتى من خارج سياراتهم المرعبة بل تطن بآذانهم البلاستيكية، وفى نسخ أخرى تحاط مواكبهم ببعض البشر المصنوعين من الورق المقوى والخشب، وقد تم طلائها بلون الولاء للطاغية يحيطون به أينما ذهب، ويخرجوا من صناديقهم وقتما يريد التواجد مع عينة من شعبه الوهمى المزعوم.
طغاة أسلحتهم طائرات لقمع المعارضين، وقطيع من فقرائهم وضحاياهم يلبسونهم الملابس العسكرية ويزجون بهم فى مواجهة بقية الضحايا والفقراء، وكاميرات ترسم بريشة الزيف والأكاذيب ما يريد الطاغية أن يراه، طغاة يستلهمون مبادئهم الأخلاقية وبنود دساتيرهم من بربرية العصور السحيقة، يجسدون الشر فى صراعه من الخير، والظلم فى صراعه مع العدل، والسجون فى صراعها مع الحرية، وأقبح واحط ما فى المجتمعات وهى تسعى لقتل أجمل وأنبل ما فيها كما عبر محمد حسنين هيكل، وعندما تثور عليهم شعوبهم الحقيقية يطابقونها بشعوبهم الوهمية فلا يرونهم سوى أعداء ومنحرفين وجرذان تستحق الهلاك.
طغاة كانوا أدوات الاستعمار قديماً فى أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا لقمع الشعوب وإخضاعها، ومازالوا أدوات فى آلة العولمة الاقتصادية الساعية لإعادة تقسيم ثروات الكوكب الأرضى لصالح أقليات شرهة تتطابق صورها مع صور الطغاة، أقليات تدعم الاستبداد لحماية مصالح شركاتهم واستثماراتهم، وتنشر الفساد لتوسيع قاعدة السفلة، وتوزع الفقر بسخاء على مئات الملايين من سكان نفس الكوكب، ولم يكن النموذجان المصري والتونسى المنهاران إلا عينة منهم، وفى الطريق إلى الانهيار طاغية آخر أكثر لوثةً وجنوناً يترنح فى ليبيا.
يصف ماركيز فى السطور الأخيرة من روايته نهاية البطريرك (جنرال، كنا نعلم بأننا كنا موجودين فى حين ظل هو يجهل ذلك حتى النهاية..... انطلق محلقاً فى جلبة آخر أوراق خريفية باتجاه مملكة النسيان الحقيقى، متشبثاً بجلباب الموت الرث، غريباً عن هتافات الحشود المهتاجة التى كانت تهرع إلى الشوارع فرحةً، منشدة موته بأناشيد السرور، غريباً إلى الأبد عن موسيقى معزوفات الحرية، وعن أسهم الفرح النارية، وعن أجراس البهجة التى زفت للملأ البشرى بأن زمن الأبدية الهائل كان أخيراً قد انتهى) والشعب الليبى – كما الشعبان التونسى والمصرى – أيها العقيد الخرف موجود وأنت الوحيد الذى يجهل وجوده، وستكون – كما كانا مبارك وزين العابدين - غريباً ومنبوذاً عن أناشيد وموسيقى وسهام أفراح شعبك وهو يحتفل بنهاية الأبدية ويستنشق نسيم الحرية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة