الشعب فى ثورة 25 يناير لا يمتلك السلطة، لكنه يمتلك الأمل فى إصلاح اعوجاجها، لا يمنح مكتسبات لكنه يملك قاعدة أولية للمحاسبة والمراقبة، لذلك على رجال كل العصور وبهلوانات الحياة السياسية أن يمتنعوا، يعتزلوا أو يتطهروا علانية ليشهدوا بداية وضع النقاط على الحروف فى الحياة السياسية المصرية، وأركانها: برلمان منتخب حقيقة دون تزوير، وتحت رقابة مصرية ودولية، وفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وحكومة تتشكل بناء على أجندات شعبية، على أن يكون الشعب متيقظاً عارفاً بمكتسباته وبدوره فى حماية حقوقه عبر مختلف آليات المراقبة والمحاسبة.
حتى هذه اللحظات التى أكتب فيها، مازلنا جميعا أسرى الدفقة الاحتجاجية العظيمة للثورة، أى الخروج إلى حى الأربعين فى السويس، مشعلة الثورة، وميدان التحرير فى القاهرة، ومسجد القائد إبراهيم فى الإسكندرية، وغيرها من ميادين المحافظات لإعلان الاعتصام حتى إسقاط النظام ورحيل الديكتاتور، وها هو النظام قد تهاوى وسقط وها هو الديكتاتور قد رحل إلى غير رجعة، فماذا بعد؟
كيف نخلق كيانات دائمة تتواءم مع القانون وتمتلك القدرة على المحاسبة والرقابة على السياسات والأداء الحكومى، مستغلين هذه الروح العظيمة للثورة فى تعظيم ثقافة التطوع للمساهمة بالجهود، وقد رأينا كم هى جبارة وفاعلة فى إعادة بناء هذا البلد.
نعم هناك أحزاب وكيانات وائتلافات تشكلت بعد نجاح الثورة تضم وجوها معروفة من الكتاب والفنانين والسياسيين، أى من النخبة الواعية التى نظمت وقادت المظاهرات المليونية، وهذا مطلوب بشدة، لكن ماذا عن طاقات الملايين الذين كانوا الكتلة العظيمة المستجيبة الهادرة فى الميادين؟
ألم يلتفت أحد إلى أن عدداً ملحوظاً من هذه الكتلة العظيمة المتماسكة تفتت بعد نجاح الثورة إلى عشرات من الاعتصامات والاحتجاجات الفئوية دون ضوابط ودون عقل ينظمها ويعرض مطالبها، كما شهدت هذه الاحتجاجات تجاوزات وأحيانا جرائم؟
ألم يلتفت أحد إلى الإعلان الذى أبداه مئات من الشباب عن فائض الطاقة المهدرة، عندما سارعوا بعد نجاح الثورة إلى تحويل طاقة الثورة إلى طاقة تنظيف وتجميل للشوارع والأحياء فى القاهرة والمحافظات؟
أقول إن الملايين الذين خرجوا يهتفون بأن الشعب يريد إسقاط النظام، كثير منهم من المحرومين الباحثين عن حقوقهم الأولية، وكثير منهم مقهورون مقموعون باحثون عن وجودهم وذواتهم، وكثير منهم فقراء مع سبق الإصرار والترصد، أى جرى إفقارهم دون وجه من الحق أو العدل، وهؤلاء يبحثون عن الكفاف والرزق الحلال بغضب وحماس، وكثير منهم مرضى مع سبق الإصرار والترصد، ويبحثون عن العلاج والدواء وهو حق طبيعى لهم منعوا منه بدافع الفساد والإفساد وهم يبحثون عنه بغضب وحماس، وكثير منهم عاطلون عن العمل بفعل السياسات المجرمة والعميلة والفاشلة التى أدت إلى بطالة عمال وفنيين وهم مازالوا فى أوج عطائهم بدعوى الإصلاح الاقتصادى، أو منع فرص العمل عن غيرهم من الشباب المتعلم الذى لا يجد إلا عملا عشوائياً لا يتناسب مع ما تعلمه، وهم يبحثون عن حقوقهم بغضب وحماس.
لكن هذه الفئات والنماذج الغاضبة المتحمسة جميعها، تملك فائضا هائلا من الطاقة والخبرات المعطلة وغير المستغلة، وهنا تتمة السؤال الذى بدأنا به، وأعنى كيف تتحول ثورة 25 يناير إلى مجموعة من الآليات والأطر الدائمة فى خطوة أبعد من الاعتصام فى ميدان التحرير وغيره من الميادين دون إسقاط خيار الاعتصام المليونى، كلما اقتضت الحاجة فعليا لتقويم السلطة المفوضة بتنفيذ أجندة الشعب المصرى؟
قبل التصدى للإجابة عن هذا السؤال الجوهرى، أجد من الضرورى طرح عدد من الأسئلة المرشدة، وأولها أن ثورة 25 يناير خرجت من القواعد الشعبية وبدون كوادر سياسية حقيقية رغم انضمام عدد من النشطاء والسياسيين إليها، فكيف تبنى الثورة كوادرها السياسية؟
كيف تبنى الثورة خطابها فى مرحلة ما بعد تنفيذ المطالب ومعظمها جار تنفيذه بالفعل، بحيث لا تكون رد فعل على حالة الاستقطاب السياسى التى خلقها نظام مبارك، وحتى لا تكون رد فعل سياسيا انتقاميا، أو تتمترس فى المربع رقم واحد أى ميادين الاعتصام وتترك السياسة للوجوه القديمة؟
كيف تتحصن القوة الغالبة للثورة من أخطاء الحكم الشمولى السابق، بحيث لا تتبنى آليات الاستبعاد الطائفى أو المذهبى أو السياسى، ولا تلجأ لوصم المختلفين مع خطابها حال تشكله وتخوينهم ونزع المصرية عنهم، وصولا إلى اعتقالهم أو نفيهم؟
كيف يتم نشر الوعى بين الملايين الذين التفوا حول الثورة وأسهموا فى إنجاحها، إن الغضب الشعبى يمكن أن يحمل الأمل فى الغد لكنه قد ينحرف إلى الفوضى والمذابح والحرب الأهلية؟
كيف يمكن أن يتم التوعية لدى الملايين الملتفة حول الثورة بأن ثورتهم يتربص بها فاسدون ورجعيون ومخبرون نظاميون وانقلابيون؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة