أكبر إهانة كانت ستلتصق بأرواحنا نحن المصريين، كانت ستتمثل فى أن يظل الرئيس المخلوع حسنى مبارك يتمتع بمنصبه المرموق إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولاً، فيتم التعامل مع جثمانه بما يليق برؤساء الجمهوريات الأبطال، فتنظم له جنازة رسمية مهيبة، يتقدمها الضباط والجنود فى مشهد جليل حاملين الأوسمة والنياشين، ثم تطلق المدافع الواحد والعشرين طلقة المعتادة تكريماً لرئيس دولة قضى نحبه، وهو مازال على رأس السلطة. ثم تأكيداً لمسلسل الإهانات التى كانت ستلحق بنا، يتولى نجل الرئيس جمال مبارك مقاليد الأمور فى مصر المحروسة وسط هتافات الترحيب والتأييد وزغاريد الفرح من قبل رجال ونساء الحزب الوطنى المنكوب!
أقول لو كان تم ذلك، لا قدر الله، لدأبت كتب التاريخ على وصم الشعب المصرى فى هذه الفترة بأقذع الصفات، لأنه ترك حاكماً مستبداً يسطو على السلطة ثلاثين عاماً كاملة دون أن يزيحه من فوق كرسى العرش. وكان التاريخ سيقف مذهولاً وحزيناً أمام المصريين الذين أسقطوا النظام الملكى الفاسد فى ليلة عبقرية قبل ستين عاماً تقريباً، ثم عادوا وانصاعوا، ليقبلوا أن تتحول بلدهم إلى إقطاعية يورثها مبارك الأب إلى مبارك الابن دون أن يتذمروا ويعترضوا!
لكن لأننا شعب عظيم واستثنائى، لم نمنح التاريخ أى فرصة ليسخر منا ويتهمنا بالخنوع، فانتفضنا فى ثورة عارمة يوم 25 يناير 2011 لنطرد حسنى مبارك وأهله من عرين السلطة إلى الأبد، ونستعيد بثورتنا المجيدة هذه احترام التاريخ والأجيال المقبلة.
حسناً... ماذا إذن بعد هذه الثورة الخالدة؟ وكيف سنتعامل مع الذين يحلمون بتولى قيادة مصر بعد أن تستتب الأمور، ويحين موعد انتخابات الرئاسة؟ وما هى المواصفات الواجب توافرها فى شخص الرئيس المقبل لمصر؟
لا يغيب عن نباهتك أننى سأفترض أن الدستور الجديد الذى سيتم وضعه سيوازن بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، فلا تجور سلطة على أخرى، كما أنه سيحدد صلاحيات رئيس الجمهورية بطريقة تجعله مجرد إنسان ذى منصب مرموق، وليس إلهاً يحكم ويتحكم مثلما كانت تقول مواد الدستور السابق الذى سقط مع سقوط النظام.
بداية علينا الاعتراف بأن منصب رئيس الجمهورية فى حاجة ماسة إلى رجل مهموم بالوطن منذ الصغر، وتؤرقه دوماً رغبة جارفة فى حب الناس وإحقاق العدل، كما يجب أن يتمتع الرئيس المقبل بثقافة عريضة، كأن يكون قرأ فى الفكر والأدب والفلسفة والقانون والتاريخ، خاصة تاريخ بلده ومنطقته الإقليمية إلى آخره، فأنا أكاد أجزم أن الرئيس المخلوع حسنى مبارك لم يقرأ كتاباً واحداً فى حياته خارج مراحل التعليم عندما كان تلميذاً فى المدارس، والدليل طريقه إدارته للبلد والتى تشى بجهل تام بالناس وبالتاريخ وبالجغرافيا.
ولكى أزيدك من الشعر بيتاً بخصوص الجهاز النفسى والمعرفى للرئيس المطرود أنه كان يفخر بأنه لم يكن له أى اهتمام بالسياسة والأحزاب قبل ثورة يوليو سنة 1952، الأمر الذى يفضح بلادته السياسية ويعرى جهله، ذلك أن كل شباب مصر تقريباً انخرطوا فى الحياة السياسية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، مطالبين بالاستقلال عن الاحتلال الإنجليزى البغيض، ومصرين على إقامة العدالة الاجتماعية. فتجد من هؤلاء الشباب من انضم للإخوان المسلمين أو الوفد أو الشيوعيين أو مصر الفتاة أو حزب الأحرار الدستوريين أو... أو... إلا الشاب حسنى مبارك! ومن عجب أنه كان يفخر بذلك عندما صار فى لحظة تاريخية مشئومة رئيساً للجمهورية!
على أى حال... نعود إلى المواصفات الواجبة فى الرئيس المقبل، حيث ينبغى أن يكون مشغولاً طوال عمره بالهم العام، متمتعاً بخيال متوهج وغزير، حالماً بمصر عفية وجميلة وخضراء، محباً للبسطاء، ليس راغباً فى إنصاف الفقراء فحسب، بل ومهموماً بالقضاء على الفقر نفسه.
لذا أتعجب كثيراً من كلام واحد مثل رئيس الوزراء السابق السيد أحمد شفيق، حين يقول إنه لم يكن يفكر بأن يكون رئيساً للجمهورية، وأنه فوجئ بأن "الجماهير" ترشحه لهذا المنصب الخطير، وعليه سوف يخوض التجربة، هذا كلام رجل لم ينشغل بالوطن، ولم يكن طامحاً فى تولى أرفع المناصب، فكيف له أن يحقق آمال الناس فى إقامة مجتمع أكثر عدلاً وحرية وجمالاً؟
تبقى نقطة شديدة الأهمية يجب أن تتوفر فى مواصفات الرئيس المقبل لمصر وهى ألا يزيد عمره عن 55 عاماً، ذلك أن المرء بعد هذه السن يفقد الكثير من لياقته النفسية وكفاءته العصبية وفقاً لأستاذ الطب النفسى الدكتور أحمد عكاشة، ومع احترامنا لكل الذين أعلنوا نيتهم للترشيح، فهم قد تجاوزوا هذا العمر بمراحل. فالسيد عمرو موسى 75 عاماً، والدكتور محمد البرادعى 69 عاماً والدكتور أحمد شفيق 70 عاماً والدكتور أحمد جويلى تجاوز السبعين على ما أظن، فكيف لرجل بلغ من العمر أرذله أن يقود بلداً منهكاً ومجروحاً ومنهوباً وطامحاً فى أن يستعيد مجده القديم مثل مصر؟
الأغرب والمحزن فى آن أن حكومة الدكتور عصام شرف ليس فيها شاب واحد من أولئك الذين قادوا الثورة المجيدة فى كل ميادين وشوارع مصر، على الرغم من وجود آلاف الشباب من الكفاءات فى جميع المجالات، فكيف إذن تم تجاهل هؤلاء الثوار عند تشكيل الحكومة؟ وكيف يمكن أن نطمئن على المستقبل إذا تولى المنصب الأول رجل شاهد بعينه طرد الملك فاروق قبل ستين عاماً! (أفتح هذا القوس لأهمس فى أذنك أن السيد عمرو موسى، على سبيل المثال، كان عمره 16 عاماً عند قيام ثورة يوليو قبل ستين سنة، وبالتحديد عام 1952).
من فضلكم دعوا الشباب يقود البلد، أما الكبار المحترمون فما عليهم سوى تقديم الاستشارات والنصائح، لا أن يستولوا على المواقع المهمة والمناصب المرموقة!