◄◄ المصريون أخرجوا خبرة 30 عاماً من الطوابير مختلفة الأشكال والأحجام والأنواع فى طابور واحد طويل ينتهى بالحرية
فى 19 مارس تجلت العبقرية الحقيقية للشعب المصرى فى صنع طوابير طويلة ربما تدخل موسوعة جينيس كأطول طوابير تصويت فى العالم، فنحن خبرة ثلاثين عاما فى صنع جميع أنواع الطوابير بمختلف الأشكال والأحجام والأنواع، طوابير ممتدة، ومستعرضة، ودائرية، طوابير جالسة، وواقفة، ونائمة أحياناً، دون أن يدرك النظام البائد أن ما دربنا عليه طوال هذه العقود سننجح فى استخدامه لهدم دستوره وكيانه وشرعيته المزيفة.
طوابير 19 مارس هى حالة فريدة فى دمج كل طوابير الفساد القديمة بنفس الوجوه والأشخاص والتشكيلات القديمة لصنع طابور واحد طويل يمتد حتى الديمقراطية.
«طا» باللغة الهيروغليفية تعنى «أرض»، و«بور» بالإنجليزية تعنى: «فقير»، وبهذا تكون «طابور» معناها: أرض الفقير، والفقير هو محدود الدخل الذى نهبه مبارك وعصابته طوال ثلاثين عاماً، وحبسه فى طوابير طويلة ومهينة ومُذلة انتقصت من كرامته وآدميته، فكان يقضى نصف يومه فى عملين أو ثلاثة، ونصفه الآخر فى طابورين أو ثلاثة، حتى إن بعض المصريين أصبحوا من محترفى الطوابير، يجيدون الوقوف فيها وتسلية أنفسهم لتضييع الوقت وإنشاء صداقات سريعة وعلاقات مؤقتة، ويخترعون وسائل مبتكرة كل مرة للتحايل عليها والدخول فى مقدمتها أو فى منتصفها لدرجة أنه من المستحيل غالباً أن تجد شخصاً فى نهاية أى طابور مصرى، فالجميع يستطيعون بشكل أو بآخر التسرب إلى مقدمة الطابور.
طابور 19 مارس الممتد إلى مالا نهاية هو انتقام عتيد من كل الطوابير القديمة وصرخة شعبية ضدها حتى لا تعود مرة أخرى، فالحياة الكريمة التى يتطلع إليها المصريون ينبغى أن تكون بلا طوابير مهينة يحاصرها الفقر والمرض والجهل.
هذه كانت المقدمة وإليكم الطوابير بالتفصيل:
1-طابور العيش
وهو الأشهر على الإطلاق وصاحب الإنجازات العريقة من حالات التحرش والشجارات والاعتداءات والوفيات والاستشهادات، وإذا كانت أم كلثوم تقول قديما: وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبنى قواعد المجد وحدى، فإن أم العيال تقول حديثا: وقف الخلق ينتظرون جميعا أن يحن عليهم الفرّان ويمنحهم قليلا من الخبز، لأن الجوع كافر ولم يسمع عن أمجاد مصر الخالدة.
وفى طابور العيش الفرّان سيد الموقف، إذا أسعدك زمانك ووصلت إليه، ووقفت أمامه وجها لوجه، ابدأه بالسلام وابتسم له، لا ترفع صوتك فى حضرته، فهو قادر على أن يطردك من الطابور كما طُرد إبليس من الجنة.
والطابور أوله يأس، وأوسطه مشقة، وآخره عتق من الجوع.
فقير يعنى «بور»، وفى بورسعيد منذ عامين، وقفت سيدتان فى طابور الخبز، وتشاجرتا: أنا واقفة قبلِك.. لأ أنا اللى قبلِك.. لأ أنا.. لأ أنا.. الأقوى أمسكت بالأضعف، ألقتها على الأرض، خلعت طرحتها، وضعت أذن الأضعف فى فمها، ضغطت بأسنانها، عضت بكل قوتها وغيظها من الطابور، والعيش، والعيشة، واللى عايشينها، لم ترفع رأسها إلا وأذن الأخرى كاملة فى فمها.
الواقفون فى الطابور انتبهوا للحظة، وحاولوا استدعاء الإسعاف للمصابة، فى محاولة لإنقاذ أذنها، فرفضت، وقالت: «ولادى جعانين فى البيت.. ومينفعش أسيب مكانى فى الطابور».
2 - طابور الأنابيب
وهو طابور شهير، خاصة فى الشتاء، حيث يستحم المرء منا بماء ساخن، فيزيد استهلاكه من أنابيب البوتاجاز، وفجأة يعلن المسؤولون كل شتاء عن أزمة مفاجئة فى الأنابيب رغم أنها تتكرر كل سنة.
الطابور ينتهى عند باب مستودع الأنابيب الخالى من الأسطوانات فى الغالب، ويبدأ من نقطة يصعب تحديدها، والسمة المميزة لهذا الطابور هى أن من يقف فيه بالضرورة لابد أن تتوافر فيه عدة شروط، أولها أن تكون معه أنبوبة (طبعاً) يجلس عليها أو يحملها أو يقف بجوارها، وثانيها أنه يكون غالبا جائعا أو خرمان أو فى حاجة إلى الاستحمام، فالأنبوبة تنتهى فجأة ولا يمكنك اكتشافها إلا حين تلجأ إليها لعمل أكل أو شاى أو لتسخين مياه للحمام، أعزك الله.
وطابور الأنابيب هو المنافس الرئيسى لطابور الخبز من حيث المشاجرات والاحتكاكات والشهداء واحتمال العودة من كل منهما دون أن تنال مرادك بعد ساعات من الوقوف فى الطابور.
3 - طابور المعاشات
فى كل دول العالم تظل تعمل طوال حياتك لتستريح حين تكبر إلا فى مصر ما قبل ثورة يناير، فأنت تعمل طوال حياتك لتقف فى طابور المعاشات حين تكبر وتبلغ من العمر أرذله، وطابور معاشات البريد فى مصر هو الوحيد أيضاً الذى يقف فيه رجال وسيدات فوق السبعين من العاشرة مساء لقبض المعاش فى صباح اليوم التالى، يستوى فى هذا حر أغسطس ومطر وبرد يناير، وحين تقف لتسأل واحداً منهم وتقول له: هو انت معاش حضرتك كام يا حاج سيقول لك: 180 جنيها مثلاً.
4 - طوابير المصالح الحكومية
أنت مواطن مصرى، إذن أنت مطالب بالوقوف فى حوالى 5 طوابير فى المتوسط لاستخراج أى ورقة رسمية مقيتة يمكنك فى أى مكان فى العالم استخراجها عن طريق التليفون أو الكومبيوتر، طابور أول أمام موظف بائس حتى ينتهى من سندوتشات الفول والطعمية، ليخبرك فى النهاية أن عليك التوجه لموظف آخر تنتظره فى طابور ثان حتى ينتهى من صلاة الضحى، ليؤشر لك على الورقة تأشيرة أولى، ثم يوجهك إلى موظف ثالث تقف أمامه طابوراً طويلاً لأنه أخذ إذنا لشراء الخضار للمدام، ثم موظف رابع وخامس وسادس حتى تصل إلى حامل الختم فيختمك ختم النهاية، وغالباً سيكون هناك خطأ ما لن تكتشفه إلا بعد أن تعود إلى البيت، فتضطر إلى الرجوع إليهم مرة أخرى.
5 - الطابور الخامس
وهو مصطلح مخابراتى عتيد يطلق على الجواسيس فى أى مجال، وهم للأسف فئة كانت منتشرة فى مصر ما قبل الثورة، فهم موجودون فى كل شركة وهيئة ومصلحة ومكتب ومحل وحتى كشك.
فالمتطوعون لإرضاء الكبار والمسؤولين وأصحاب المحلات والأكشاك كثيرون ومتفانون فى عملهم، ويمكنهم خيانة أقرب الناس إليهم والوشاية بهم مقابل أى شىء حقير، وأحياناً بلا مقابل على الإطلاق.
وغالباً ما يعمل كل فرد من أفراد الطابور الخامس بمفرده كطابور مستقل، لأنه لا يأمن أن يقف أحد أمامه أو خلفه لأنه كما قال المثل: جاسوس على جاسوس ما يلفش.
6 - طابور المستشفيات
وهو طابور طويل من المرضى أمام غرفة كشف أو شباك تذاكر أو صيدلية مستشفى توزع أدوية مجانية، وهو طابور غير منتظم، فهناك الواقف وهناك الجالس وهناك النائم وهناك المرمى على الأرض كيفما اتفق.
طابور مؤلم يتعامل معه ممرضون وممرضات مريضون ومريضات أيضا بقسوة غير مبررة وبسلطة وتعال لا سبب لهما، ليدخلوا فى النهاية على أطباء لا يسمعونهم ويصفون لهم أدوية ربما تمرضهم أكثر.
7 - طابور الديمقراطية
وهو الذى أدرك الشعب أنه كلما طال كلما قصرت الطوابير الأخرى، فوقفوا فيه بأعداد غفيرة، تماماً كما فى الصور المرفقة.