تعلمنا فى صحافة الاستقصاء والتحقيقات الصحفية أن نخضع قيم الأفكار المتدفقة إلينا للفحص والتدقيق لنختبر مقدار الصدق والكذب فيها قبل أن نقدمها للقارئ.. وتتباين أدوات الاستقصاء والتحقق مع اتجاه كل موضوع نتناوله لنقف فى النهاية أمام بيان صادق للرأى العام يكشف الحقائق، وصحفى موسوعى يجمع الكثير من الخيوط فى قلمه تمنحه المصداقية.. تلك هى بعض المعايير المهنية التى قد يظن البعض أنها ليست ذات ارتباط بالتحليل السياسى لمجريات الثورة، لكنها فى حقيقة الأمر وثيقة الصلة بما يجرى من محاسبات للفساد والمفسدين وستكشف لنا فى مراحل التحقيق المتقدمة عن معدلات الإزاحة المذهلة لثروات الوطن.. فمن المتعارف عليه أن الشركات الاستثمارية الكبرى تلجأ إلى ستة أدوات رئيسية للتقييم المالى والاقتصادى للربحية التجارية وهى تحليل التعادل، وفترة الاسترداد، والمعدل المتوسط للعائد، وصافى القيمة الحالية، ودليل الربحية المنافع للتكاليف، ومعدل العائد الداخلي، وتلك هى أهم المعايير المستخدمة فى تقدير الربحية للمشروع المقترح والتى تساهم فى اتخاذ قرار بإقامة المشروع أو صرف النظر عنه حسب نتائج هذه المعايير.. لكنك عندما تحاول أو تفكر فى تطبيق المعايير العالمية على لائحة اتهامات النائب العام الموجهة لرجال السلطة، سوف تكتشف على الفور أن ما جرى أمر غير عادى فى تاريخ التجارة والأعمال منذ تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية ولن تجد مدخل تجارى مفهوم لتحقيق تلك الثروات بتلك الأحجام وتلك المعدلات وفى زمن قياسى سوى أن تحتل بلد بأكمله وتحول شعبه إلى قطعان من الغنم تتاجر بها حية ومذبوحة، أو أن تحولهم إلى مزرعة دواجن يضع فيها الرجال البيض قبل الإناث والشباب والأطفال الرضع فور ولادتهم، لكن حتى تلك الفرضية لن تحقق معدلات الإثراء التى شاهدناها ـ والعهدة هنا على الراوى وهو النائب العام.
وإذا ما قررت أن تفتش فى التاريخ عن تجارب سابقة تقيس عليها ما حدث فليس أمامك سوى الوثائق التاريخية للاحتلال البريطانى عام 1882 والذى استمر لنحو 75 عاماً، مثل ما فعل النائب البرلمانى محمد خليل قويطة عام 2008م عندما توجه بطلب إحاطة إلى لجنة العلاقات الخارجية لمناقشتها حول أسباب عدم مطالبة الحكومة البريطانية، بسداد السلفية التى حصلت عليها بريطانيا من مصر أثناء قترة الاحتلال البريطانى ومطالبتها بالتعويضات عن فترة الاحتلال.. وكشف النائب وقتها عن حصول إنجلترا على سلفية من مصر رسمياً أثناء الحرب العالمية الأولى بمبلغ 3 ملايين جنيه إسترليني، وتم قيد المبلغ بدفاتر العهد والأمانات من قبل السير وليم برونياك المسئول القانونى ممثل الحكومة البريطانية فى مصر، مشيراً إلى أن المبلغ ثابت فى الكتب والوثائق المصرية والبريطانية والأرشيف الملكى البريطاني، وأشار النائب إلى أن مبلغ السلفية لا يسقط بالتقادم وأن الحكومة البريطانية لإلزامها بسداد المبلغ، وأضاف أن المبلغ المستحق سداده حالياً حسب تقديرات البنوك عن أصل السلفية حوالى 28.8 مليار جنيه إسترليني، وأن البرلمان المصرى فى ذلك الوقت رفض المصادقة على قرار حكومة توفيق نسيم، باعتبار مبلغ السلفية هدية من مصر لبريطانيا، وأوضح أن البرلمان الجهة الوحيدة التى لها حق التنازل عن مال الشعب طبقاً للقانون الدولي، وطالب النائب بسداد بريطانيا تعويضات لمصر عن فترة الاحتلال أسوة بالتعويضات التى حصلت عليها ليبيا من إيطاليا. مؤكداً أن الاحتلال البريطانى تسبب فى وقوع خراب ودمار اقتصادى وسياسى وعلمي، وتم قتل المصريين دون ذنب كما حدث فى مذبحة دنشواى وغيرها.. وربما يسجل الاستجواب موقف تاريخى للنائب وللبرلمان المصري، لكنه يثير عاصفة من التساؤلات حول الوجه الحقيقى للحقبة الماضية، وهى تساؤلات لن نجد لها أجوبة بعد احتراق الجهاز المركزى للمحاسبات ومن قبله نيابة الأموال العامة ومن قبلهما مجمع المحاكم فى الجلاء، وبالتالى يستحيل مقارنتها بالاحتلال ومراجعة النتائج التى أثمرت عنها كل حقبة، لكن يبقى سؤال أخير .. هل يمكن أن يبلغ النهب تحت مظلة أى احتلال بكل قسوته ومذلته، درجة أدنى مما ينهبه الحكم الوطني؟ وهل كان المخطط بالفعل تغيير المسمى الرسمى للدولة إلى شركة الوطن؟!!!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة