اليومَ الثلاثاء 25 يناير، عيد الشرطة، كل سنة وكل فرد فى جهاز الشرطة بخير، وبهذه المناسبة كتب الأستاذ محمد فودة مقالا عنوانه: «حبيب العادلى، الحزم بأعصاب هادئة». وهو قصيدة مطوّلة تتغنّى بإنجازات الداخلية فى عهد العادلى، وتطوّب حال الأمن والأمان اللامسبوقة التى ينعم بها المواطنُ المصرى الراهن، المقال من 1200 كلمة، لم يتطرّق لهفوة عابرة، أو خطأ ولو غير مقصود، ارتكبه فردٌ فى جهاز الشرطة المصرى! هذا مدهش! كأنما المقال مكتوب عن جهاز أمن، لا فى إحدى دول العالم الأول، بل فى دولة طوباوية من قصص الـFairy Tales، حيث الشرطىُّ ملاكُ رحمةٍ وسلام وأمان، كل هذا الأمن والنعيم يعيشهما المواطن المصرى، وأنا لا أدرى! فى الشهرين الماضيين فقط، حدثت أهوالٌ ومذابحُ تقوّض أمنَ قارة بأسرها، بدءًا من العمرانية، ومرورا بمجزرة الإسكندرية، ثم سيد بلال، وتتويجًا بقطار سمالوط، الضحية دائمًا: مواطنٌ مصرى، والقاتل دائمًا: إما رجلُ شرطة، أو تقاعسُ شرطة.
يوم الثلاثاء 30 نوفمبر 2010، نشرت «الشروق» حوارًا مع القاضى وليد الشافعى عضو اللجنة العامة لانتخابات مجلس الشعب، قال فيه إنه دخل إحدى اللجان التى تقع فى دائرة إشرافه بالبدرشين، فاستوقفه شخصٌ يأمره بغلظة: «طلّع تحقيق الشخصية». ولما أبرز له بطاقة «نادى القضاة» اختطفها من يده، وقال: «اركن على جنب إنت مش طالع من المدرسة تانى». هكذا يتحدث ضابطٌ مع قاضٍ، إن صحت الرواية، فكيف الحال مع عموم الناس؟
يستدعى هذا مشهدًا عاينته بنفسى قبل شهور، وكتبت عنه مقالاً بجريدة «المصرى اليوم» عنوانه: «تعالَ هنا يا حيوان»، إذ حاول شاب فى منتصف الثلاثينيات أن يكسر إشارة المرور عند كوبرى قصر النيل، ولما شرع الشرطى فى تحرير مخالفة له، نزل من سيارته و«رزع» الباب بعنف وناداه: «تعالَ هنا يا حيوان!» صُعِق الشرطىُّ، وصُعقنا! فأردف ذو الجبروت: «لما حد يقول لك تعال هنا يا حيوان، يبقى حاجة من تلاتة: ضابط شرطة، أو وكيل نيابة، أو مستشار! وأنا مستشار يا حيوان، فهمت؟» مثلما يستدعى روايات شهود العيان، إن صحت كذلك، فى واقعة خالد سعيد، حول الأداء الشرس الذى تعامل به الشرطيان معه، مثلما يستدعى ما نشر مؤخرًا عن اعتداء ضابط شاب، بالقول والفعل، على أستاذة بجامعة الزقازيق، أمام طلابها وأثناء محاضرتها، فلا هو احترم مكانتَها العلميةَ، ولا احترم عمرَها، ولا احترم كونَها امرأةً، ولا احترم الزىّ الرسمىّ المفترض أن يُشرِّفه، مثلما يستدعى عديدَ حوادث مشابهة نشرتها الصحفُ عن سلوك شرطيين مع مواطنين قادهم مصيرُهم التعسُ إلى أحد الأقسام، وحوادث مشابهة أطرافها أبناءُ شرطيين يستقوون بمراكز آبائهم.
مئات من حالات استغلال السلطة كتبتُ عن بعضها، وكتبَ عن بعضها عشرات الصحفيين، تظاهر الناسُ غضبًا جراء بعضها، وبعضُها تحوّل إلى طلبات إحاطة فى مجلسى الشعب والشورى، ففى اجتماع لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشعب بتاريخ 29/ 12/ 2008، أعلن اللواء حامد راشد مساعد وزير الداخلية للشؤون القانونية: «أن 280 ضابطًا قد أحيلوا إلى الاحتياط لاتهامهم بارتكاب تجاوزات ضد المواطنين، كما تم فصل 1164 فرد شرطة من الخدمة «فى الفترة الأخيرة» لسلوك معيب»! والرقم مدهش، والأكثر إدهاشًا عبارة: «فى الفترة الأخيرة»! إذ ما حجم التجاوزات فى عدة أعوام؟ وهل الحالات التى تم اكتشافها هى (كل) حالات اعتداءات الشرطيين على الناس؟ بالطبع لا، فكثيرون من أبناء شعبنا الطيب أخفقوا فى تعلّم ثقافة عدم قبول الظلم، بل أتقنوا ما أسميته فى مقال سابق: ثقافة «التواطؤ على النفس». ربما لأن أحدًا لا ينال حقّه من النظام! كما أن بعض القضايا يتم لصقها بأكباش فداء من صغار أفراد الشرطة حتى ينجو فاعلٌ من كبار الضباط والمسؤولين، مثلما فى قضية خالد سعيد، إن صحّت.
ولأن المصريين سواء، فلا أودّ أن أركز على احتجاز الدكتور محمد البرادعى فى المطار للتحقق من شخصيته والكشف على جواز سفره، على أن ذلك لا يمنعنى من التساؤل: إن فعلوا ذلك مع رجل ملء السمع والبصر: مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية لثلاث دورات متتالية، وحائز على جائزة نوبل وقلادة النيل، فماذا عساهم فاعلون مع أمثالنا، من المواطنين الغلابة؟
بالقطع لا أشكك فى أن هناك نماذجَ ممتازة بين رجال الشرطة، فهم فى النهاية مصريون، أبناء أعرق حضارات الأرض، لكننى لا أشك كذلك فى أن الثقة انعدمت بين المواطن المصرى ورجل الشرطة، الشرطة التى كانت فى خدمة الشعب، ثم غدت: «الشرطة والشعب فى خدمة الوطن». فالسؤال الدارج لدى الناس الآن هو: لماذا تنفذ الشرطةُ القانونَ بكل حسم على البسطاء، و«المنبوذين» من قِبل النظام، وتغضُّ الطرفَ إن تعلق الأمر بالميسورين وأصحاب النفوذ؟ وإلا كيف استطاع العشرات من ناهبى ثروات مصر الفرار للخارج عبر مطاراتنا، تلك التى استوقفت البرادعى لتتأكد من شخصيته؟!
السؤال: هل فعل ضابط البدرشين ما فعله مع القاضى وليد الشافعى تطوُّعًا من تلقاء ذاته؟ وكذا ضابط الجوازات الذى استوقف البرادعى؟ وإذا مددنا الخط على استقامته: هل من تلقاء ذاتهم تعامى الضباطُ المسؤولون فى المطار عن هروب المقترضين المتعسرين، أم أن الأمر أكبر منهم؟ بالطبع لا أنا ولا أحد لديه أدلة على وجود تعليمات بهذا الشأن، لكن لدينا العقل الذى يضع الحوادثَ متجاورةً، يقارن، ثم يستخلص نتائجَ تشير إلى استحالة أن يتصرف مسؤولٌ صغير بتلك الجسارة، من تلقاء ذاته، وفى الوقت ذاته أخشى أن أصدق أن تعليماتٍ عليا وراء ما يحدث، لأننا ساعتها سنكون قد دُسنا القانون بالأحذية، واستبدلناه بقانون الغاب.
الشرطةُ فى الدول المتحضرة هى أداةُ النظام، أى نظام، لحفظ الأمن وإرساء قواعد العدل والمساواة بين الناس أمام القانون، لكنها، من أسف، أداةُ قمع وترويع فى أيدى النظم الفاشية التى تُرهِبُ الآمنين، وتلفِّق التهمَ للمعارضين والشرفاء والطامحين فى حياة كريمة للناس، ومواقعَ أجملَ لأوطانهم، ومنها مصر، التى تستحق أفضل كثيرًا مما هى عليه الآن.
* نشر هذا المقال فى اليوم السابع الأسبوعى عدد 25 يناير
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة