الكل أصبح يعرف الآن لماذا انهارت الدولة مثلما ينهار طبق الجيلى تحت سقف ملعقة طفل متحمس لالتهامه!
دولة يعانى رئيسها من قصور فكرى، وسذاجة فى تقدير وقت الكلام ونوعيته، كان من الطبيعى أن تنهار فى أقل من أسبوع، لأن الأصل فى بناء الأوطان هو مهارة اختيار الكلمات، وتحديد توقيتها، ومدى مناسبتها للواقع والأحداث. والرئيس السابق حسنى مبارك لم يكن يتمتع بتلك المهارة، ولا حتى مهارة اختيار شخص قادر على أن يؤدى هذا العمل بالنيابة عنه، ولذلك جاءت كل خطاباته وأحاديثه للشعب فاترة ومملة ولا تصنع أى فارق، اللهم سوى زيادة الفوارق والمساحات بينه وبين الناس الذين يخطب فيهما، ويمنحهما تصريحات لا تقال إلا للشعب السويدى أو السويسرى الشقيق، وليس لناس مطحونة كانت «تكمل عشاها نوم».
الرجل الذى كان يرفض الرحيل ويعايرنا بالكبارى والمجارى والأنفاق التى يعتبرها أهم إنجازاته، وظل يتفاخر كثيراً بحسن تقديره، وحكمة اختياره للتوقيت، واتخاذ القرار- سقط من على كرسى العرش، لأنه لم يكن يملك أى حكمة، ولا يعرف شيئا عن اتخاذ القرارات أو ربطها بالزمن، بدليل أن خطاباته الثلاثة التى ألقاها علينا أيام الثورة جاءت متأخرة وماسخة، ولا تكفى لإسكات صراخ طفل صغير.
ولأن التكرار بيعلم الشطار فقط، لم يتعلم مبارك، ولم يدرك أنه خطيب سيئ، ومقدر غير جيد للأمور، وخرج بتسجيل صوتى أذاعته فضائية «العربية»، واستعمل مبارك نفس نغمة خطاباته القديمة، وبدلاً من أن يدافع عن نفسه، أو يسعى لتبرئة أسرته، تكلم كأنه مازال جالساً على كرسى الرئاسة، ودفة الأمور فى يده، وهددنا وتوعدنا وبرّأ نفسه من إهدار المال العام وسرقته، وإفساد الحياة السياسية، وكأنه ولى من أولياء الله الصالحين، ثم استخدم مصطلحه الشهير «أيها الأخوة والأخوات» وكأنه يخطب فى عيد العمال، بشكل ضاعف من استفزاز الناس، وجعل الأمر يبدو كأنه يتحدى الناس جميعاً.
الإشفاق وحده هو الشعور الذى يتسلل إليك وأنت تعيد سماع كلمات التسجيل الصوتى، إشفاق على الرجل الذى ما زال يتخيل نفسه رئيساً لمصر، وعلى العقل الذى لم يفكر فى أن يتم بث هذا التسجيل عبر التليفزيون المصرى، بدلاً من محطة عربية، كنوع من إثبات حسن النوايا والتقرب من الناس.
وضع مبارك نفسه فى «خانة اليك» ووضع الجيش معه، وأثبت للناس المتعاطفين معه قبل الذين هتفوا بصعوده إلى السماء، أو السقوط إلى الأرض، أنه كان يستحق طريقة الخلع المخجلة التى جعلت منه رئيساً سابقاً ومطروداً، ويستحق كل لوحة ولافتة سخرت منه وانتقدته فى ميدان التحرير، لأنه لم يفهم حتى الآن أن الأمور فى مصر تغيرت وطارت العصافير التى عششت لفترات طويلة على «قفا» المواطن المصرى، بينما هو لم يتغير وظل يتحدث بنفس الملل، ونفس النعرة الكذابة، ونفس الخيابة، بدلاً من أن يسعى للاقتراب من الناس، بعد أن ذاق مرارة إبعادهم عنه.
رسالة أخيرة:
صديقى ضابط فى القوات المسلحة، منذ 60 يوماً وهو ينام على الأرض، ولم يعرف طعم الإجازة، يسمع كل يوم شتائم الجيش فى ميدان التحرير، وتطاله أيدى بعض الذين أخذتهم حماسة الثورة وتخيلوا أنفسهم رامبو أو عرابى فوق الحصان، يسألكم فقط لماذا تهللون لضابط باع وطنه ونفسه من أجل الزواج من نرويجية، وآخر باع الجيش من أجل الاستمتاع بأمريكا، بينما تلقون الطوب والحجارة على الذين تحملوا مثلكم فساد النظام السابق، والذين تحملوا عنكم عبء فوضى ما بعد الثورة دون شكوى، ودون كلل، ودون أن يخاطبكم أحدهم فى الشارع إلا بعد أن يسبق كلامه بكلمة يافندم أو حضرتك؟.. أرجوك جاوب!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة