فى العدد الثانى من جريدة اليوم السابع، بتاريخ 21 أكتوبر 2008، كتبتُ مقالا عنوانه «شىءٌ من الحبّ والعدل، يا حبيب العادلى!». ولم أتصوّر أن يأتى يومٌ ليكون عنوان مقالى هو ذاك العنوان الذى يصنع من حبيب العادلى متهمًا، بعدما كان كل ما أرجوه منه هو شىء من العدل مع المتهمين، والحب للأبرياء!
مقالى القديم كتبتُه إثر قيام أحد رجال الشرطة، تحت لواء حبيب العادلى، بترويع طفل صغير وتعذيبه لاستخلاص معلومات! أحكم قبضتيه على كتفى الطفل وراح يرُجّه ويصفعه ويركله لكى يعترف بمكان عمّه المتهَم بالسرقة! حاولت أم الطفل إنقاذه من براثن الوحش، فضربها بكعب بندقيته على مؤخرة رأسها، ثم أوسعها ركلا فى بطنها فأجهضت جنينها، ولفظت أنفاسها تحت قدميه. وكنتُ شهدت بنفسى طبيعة التعذيب فى أقسام البوليس حينما سرق اثنان من عمّال الدليفرى بالحىّ متعلقات من شرفتى، وطُلِب منى التوجه إلى نقطة الشرطة التابع لها مسكنى لتفقد أشيائى واستيفاء المحضر. ولما رأى مأمور القسم أوراقى الثبوتية وعرف شخصيتى، أحبَّ أن «يعمل معايا واجب»، فانتفض من وراء مكتبه وأوسع اللصين الصغيرين سُبابًا وركلا ولطمًا، ما اضطرنى إلى إلقاء جسدى بين الباطش والمبطوش بهما، لأتلقى عنهما الركلات اللاآدمية. ثم مزقتُ المحضر وطلبت منه أن يكتب محضرين جديدين. المحضر الأول ضد المحل الذى يشغّل هذين الصبيين دون أن يؤمّن لهما مكانًا آدميًّا للمبيت بعد شقاء اليوم، ما اضطرهما إلى سرقة الملاءات من الشرفات يفترشانها فى عراء الحديقة للنوم عليها، أما المحضر الثانى فضد حبيب العادلى وجهازه الأمنى الفاشى الذى لم يتعلم بعد أن وظيفة الشرطة ليست إلا معاقبة من أساء استخدام حريته، بسلبه تلك التى أساء استخدامها، وهى الحرية، وفقط. ليس للشرطة سوى حبس اللص، وليس إهدار كرامته وآدميته، وإخراج طاقات الكبت الدفينة، فى عباد الله. وغنىٌّ عن القول أن المأمور بُهت من مطلبى بخصوص المحضر الثانى، ورفض تحريره متعللا بعدم مشروعيته واكتفى بالمحضر الأول ضد صاحب سلسلة المطاعم الشهيرة، وكذلك بإطلاق سراح اللصين التعسين، بناءً على إصرارى. ولستُ أدرى حتى الآن لماذا تم حفظ محضرى ضد الثرى الذى يسخّر العمال ويستنزف طاقاتهم! ولذلك كتبتُ ذلك المقال القديم وكأننى أحرر محضرى ضد العادلى عبر المقال، بعدما رفض المأمور تحريره. سألتُ حبيب العادلى: هل يدرسُ طلابُ الشرطة فى كلياتهم مادةً تُطلعهم على سقف حريتهم فى التعامل مع المواطنين، هل أطلعهم أساتذتُهم على حقوق المرأة والطفل فى شريعة حمورابى قبل الميلاد بألفى سنة، أو حقوق المواطن، كل مواطن، أمام السلطة فى «ماجنا كارتا» القرون الوسطى، أو ميثاق حقوق الإنسان الحالى، المُفعّل فى كل دول العالم المتحضر إلا مصر؟ وسألته عن مستقبل هذا الطفل الذى رُوِّعت طفولته على يد ضابط وقُتلت أمه أمام عينيه؟ هل نلومه لو أصبح فى مقبل الأيام مجرمًا، فتكون الشرطةُ بهذا تُفرِّخ مجرمين؟ واختتمتُ المقال بإعلان دهشتى من وزير الداخلية الذى جعلنى، أنا المسروقة المجنى عليها، أتعاطف مع الجانى الذى سرقنى، بسبب فاشية جهازه وغلاظة رجاله!
أما مقالى هذا: «المتهم: حبيب العادلى!» فأكتبه إثر عودتى من ميدان التحرير يوم «جمعة التطهير» 8 أبريل 2011. يوم المحاكمة الرمزية لمبارك ورموز نظامه وعلى رأسهم السيد المتهم حبيب العادلى. والمتهم برىء حتى تثبت إدانته. لكن هذا المتهم تسبقه جرائمُ سنواتٍ خمس، لا حصر لها. فهل يُعقَل أن تُختصَر جرائمُ وزير الداخلية فى عهد مبارك فى بعض المخالفات المالية والرشاوى والتربّح الوظيفى والكسب غير المشروع؟! هل كل ما ارتكبه ضد مصر وأبنائها يتلخص فى بضعة ملايين، ما أسهل أن يدفعها ويسوّى أوراقها، ليصبح بعدها مواطنًا صالحًا، حرًّا طليقًا؟
قبل ثورة يناير، ومنذ 2005، لحظة احتلّ حبيب العادلى كرسى وزير الداخلية، وبالتأكيد لكل قارئ يقرأ المقال الآن، مثلما تقريبًا لكل مواطن مصرى، حكايةٌ مرّت به أو سمعها أو قرأها عن العذابات التى ذاقها شعبُ مصر على يد هذا الرجل وجهازه. لذلك كان مقالى يوم 25 يناير، يوم الثورة، بعنوان «الشرطةُ فى خدمة مَن؟» أرد به مندهشةً على مقال كتبه أحد المدّاحين فى حبيب العادلى بعنوان «الحزم بأعصاب هادئة»!!
أما بعد الثورة، فقد ثقُلت الفاتورةُ جدًا. كلُّ شهيد فقدته مصرُ، وراءه أمٌّ تبكى، وأسرة لا تسامح، وأصدقاء لا ينسون، وجيران وأقارب وزملاء دراسة أو عمل، وحبيبةٌ كسيرة القلب كانت تنتظر عودة حبيبها، فجاءها جثمانٌ! كلُّ ابن من أبنائنا اقتلعت عينَه رصاصةُ أحد القناصة، وراءه شعبٌ ضخم لن يغفر إلا بعد القصاص. أخيرًا استرد الشعبُ المصرىُّ وعيَه بحقوقه، ذلك الوعى الذى غيّبته حكوماتُ مبارك عقدًا بعد عقد. هذا هو ملخص ثورة يناير، وملخص خروج الناس إلى ميدان التحرير، وميادين مصر، الجمعة الماضية. جمعة التطهير من كافة رؤوس القبح، وتصحيح التكييف القانونى للجرائم التى تقف فوق رؤوسهم. أقلها أهميةً هى المخالفات المالية والتربّح. لأن ثمة جريمةً أولى بالاهتمام خرج الشعبُ من أجلها: شرف مصر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة