دعونا أولا أن نبدأ بـ "تحيا جمهورية مصر العربية"، وليكن هذا هو المبدأ الذى نعيش عليه وله، انطلاقا من أن مصلحة مصر تسمو فوق الجميع، وتعلوا كل شىء آخر، ومن هنا تكون المنفعة الجماعية لهذا الشعب الذى توحدت كلمته منذ انطلاق شرارة الثورة فى يناير، ووقفت هذه الكلمة فى وجه رأس النظام الفاسد، ثم فى وجه سدنة الحكم مرورا بمحاولات بقاياه الشرسة لإفساد الثورة والقضاء عليها، ذهابا بالموقف لأزمة طائفية تمت السيطرة عليها، بشىء من الصعوبة، وصولا إلى الأزمة الحالية التى طفت على سطح المشهد السياسى والتى تحاول أغلب القوى السياسية احتوائها، مع إصرار بعض الأفراد - ليسوا بالضرورة من ذيول النظام – على المضى قدما فى تأجيج هذه الفتنة بين الجيش والمدنيين.
وهنا تكمن أم الشرور فى كلمتين "الشعب" و"الجيش"، وكأن هذا الجيش ليس جزءا من هذا الشعب المصرى، أو أن الشعب الذى نتحدث عنه ليس من بين أبنائه من انضم للخدمة فى جيش مصر، على مستويات مختلفة، فتجد أن شعار "الجيش والشعب أيد واحدة" هو من أكثر الشعارات العنصرية، التى ولدت بين أحضان الثورة، فهو يعنى فى وجهه الآخر أن هناك ثمة احتمالا ولو واحد فى المليون أن ينشق الطرفان على بعضهم البعض، وأن تشرخ هذه الوحدة، وبالرغم من هذا التحليل يبدو فى ظاهره فلسفيا إلا أنه واقع نعيشه الآن مع الأسف الشديد.
يعلم الجميع أننى أرى فى الدولة المدنية فردوس الحياة السياسية لهذا الوطن، وإصرارى المستمر لن يهدأ على أن التداخل بين العسكريين والحياة السياسية، هو أشبه بزواج الأثرياء من كبار السن من جميلات فقيرات صغيرات السن.. فلا هو قادر على الوفاء بمتطلباتها نظرا لاختلاف نظرته ولا هى راضية بما يقدمه، نظرا لرؤيتها الأكثر إشراقا، بل وقد اختلفت مع بعض أداء المجلس العسكرى منذ تولى السلطة، وحتى لحظة كتابة هذا المقال، وهو ما تفضلت الـ"اليوم السابع"، بنشره طيلة الأيام السابقة التالية على اندلاع الثورة، إلا أننى أدعو السادة القراء لوقفة مع أنفسهم، يدفعهم فيها المنطق، ويحركهم الوعى للتفريق بين المجلس العسكرى الحاكم وبين المؤسسة العسكرية، ككل مع العلم أن كلاهما شريف ووطنى، ولكن لكل منهما منطقه الخاص ومعاييره ومبادئه التى نشأ وتأسس عليها، والتى قد تتقاطع أو تختلف أو تتفق مع ما يراه كل منهما، ومع ما تراه الإرادة الجمعية للمجتمع ككل.. فلا مجال لتخوين فئة أو مجموعة من قبل أخرى وإلا تفتت الكلمة الموحدة لهذا الشعب.
ولعل التاريخ يعيد نفسه مرة تلو الأخرى، عندما تتشابه الظروف بصرف النظر عن مكان الظرف ذاته.. فما نعيشه الآن من تشتت فى الأفكار ومحاولات وئد الثورة وتباطؤ، فى المحاكمات، وضعف الإنتاج، هو ما عاشته روسيا منذ اندلاع الثورة الروسية 1905، وحتى انطلاق الثورة البلشفية 1917، أو ثورة أكتوبر كانت المرحلة الثانية من الثورة الروسية، والتى قادها البلاشفة بزعامة فلاديمير لينين، الذى كان قائدها، وليون تروتسكى بناء على أفكار كارل ماركس، فقد كانت سياسات الحكومة الروسية المؤقتة قد دفعت البلاد إلى حافة الكارثة، وبدأت اضطرابات فى الصناعة والنقل، وازدادت الصعوبات فى الحصول على أحكام، وانخفض إجمالى الإنتاج الصناعى فى عام 1917، بنسبة تزيد على 36 فى المئة، عما كان عليه فى العام 1916، حتى أن حوالى 50 % من جميع الشركات تم إغلاقها فى جبال الأورال، ودونباس، والمراكز الصناعية الأخرى، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة، وفى الوقت نفسه ارتفعت تكاليف المعيشة بشكل حاد، وتراجعت الأجور الحقيقية للعمال نحو 50 %، عما كانت عليه فى عام 1913، وارتفع الدين العام الروسى فى أكتوبر 1917 إلى 50 مليار روبل، منها حوالى 11 مليار روبل للحكومات الأجنبية، وكانت البلاد تواجه خطر الإفلاس>
وهو ما نرى مثيله، من تسريح العمالة فى قطاعات مختلفة، على رأسها السياحة والمقاولات، وتخفيض الأجور بنسب متفاوتة بين 30 و50 %، مع ارتفاع واضح فى أسعار السلع بنسب تصل إلى 28 %، واخفاض الاحتياطى النقدى الاستراتيجى..الخ.
نعود إلى روسيا لنجد أنه فيما بين مايو ويوليه، خرج حوالى 600 ألف من العمال، ومختلف الطوائف فى بطرسبرج، وبعدهم من المدن الأخرى، بقيادة البلاشفة وقاموا بمظاهرات، تحت لافتات كتب عليها "كل السلطة للسوفيات" (المجالس العمالية)، و"فليسقط عشرة وزراء للرأسمالية"، وأدت المظاهرات الحاشدة إلى أزمة للحكومة الانتقالية"، فى وقت كانت الحكومة المؤقتة تفتح هجوما على الحركات العمالية، وبدأت ترد أنباء عن انهيار نضال العمال، وبدأت أزمة جديدة فى الحكومة المؤقتة فى 15 يوليه.
وقامت اللجنة المركزية بحزب العمل الاشتراكى الديمقراطى الروسى، بتوفير القيادة للحركات العفوية، إلا أن الحكومة المؤقتة، وذلك بدعم من البلاشفة قامت بهجوم مسلح ضد المتظاهرين، فلقى 56 شخصا مصرعهم وأصيب 650.
واستجابة لنداء البلاشفة، بدأت الطبقة العاملة فى موسكو إضرابا بحوالى 400000 عامل، واجتاحت موسكو موجة من الإضرابات والمظاهرات والاحتجاجات، من قبل العاملين فى شتى المدن الروسية، وناشدت اللجنة المركزية بحزب العمل الاشتراكى الديمقراطى الروسى فى 27 أغسطس العمال والجنود والبحارة الاتجاه لبطرسبرج للدفاع عن الثورة، فبدأ الحزب البلشفى بتعبئة وتنظيم الشعب، واتجه الحرس الأحمر إلى العاصمة، وبلغ عدد قواته حوالي25000 مقاتل، بالإضافة إلى حامية للمدينة، وقام كل من بحارة أسطول بحر البلطيق، وعمال السكك الحديدية، والعمال فى موسكو، ودونباس، جبال الأورال، والجنود فى الجبهة وفى العمق بثورة فاعلة بدت فى ظاهرها وكأنها تمت على أيدى عمال وفصائل غير منظمة، ولكن ذلك دل على ضعف الحكومة المؤقتة، فى حين يدل على قوة البلاشفة وأدى إلى زيادة سلطتهم.
فى 31 أغسطس اكتسح البلاشفة انتخابات اتحاد العمال (السوفيات)، وفى ليلة 26/25 أكتوبر تم إطلاق الهجوم على القصر الشتوى للقيصر، الذى كان يحرسه القوزاق وكتيبة من النساء، الذى تمت السيطرة عليه بدون مقاومة تذكر، وأعلنت الحكومة الجديدة التى شكلها البلاشفة خروج روسيا من الحرب العالمية، ورغبتها فى توقيع اتفاقية انفصالية مع ألمانيا.
كما أصدر البلاشفة الذين تولوا السلطة فى البلاد، مراسيما تقضى بمصادرة أراضى كبار الإقطاعيين، ومعامل الرأسماليين بالإضافة إلى إعلان حق شعوب الإمبراطورية الروسية بالانفصال عنها فى وقت لاحق للثورة.\
نجد فيما سبق تصويرا أقرب للأحداث المتلاحقة التى تمر بها مصر، منذ مرحلة قريبة، ولكنها سابقة على 25 يناير، مرورا بها، بل تتخطاها لتعكس ما سيؤول إليه الوضع فى حال استمر المجلس العسكرى فى التعاطى مع الثوار بنفس أسلوب النظام البائد، مع التنقيح اللازم للمد الثورى الحالى، وفى حال استمر الخطاب الناكر لوقائع الاعتقال، والذى لاندرى من المسئول عنه، وفى حال استمر المجلس على رأس السلطة بدون فتح الحوار الوطنى الموسع، وتسليم السلطة لمجلس رئاسى مدنى مكون من شرفاء القضاء، وشخصيات سياسية عامة، وممثلا عن المؤسسة العسكرية التى لا غنى عنها، وليعى الجميع أن بيننا شرفاء غير طامعين من أمثال بلال فضل، وعمر طاهر، وعمرو الشوبكى، وعمرو حمزاوى، وجورج إسحاق، وغيرهم كثيرون، من كتاب ومحللين ومحركين للمياه الراكدة، ولا داعى للخوض فى نياتهم وذممهم الوطنية، وليعى الجميع أن الخوض فى ضمائر البعض وتخوين البعض والادعاء على البعض، لا يفيد إلا فى شق الصف الوطنى فقط، لا غير وإن أخطأوا فلا يخطأون إلا فى حق أنفسهم، أولا ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمهم بأول حجر.. وتحيا جمهورية مصر العربية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة