فاطمة ناعوت

أجيبوا عن هذا السؤال الصعب: «هو فعلاً م البلد دى؟»

الثلاثاء، 19 أبريل 2011 07:48 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الأطفالُ لا ينسون.. أدمغتُهم الصغيرةُ تسجّل المواقفَ، تُراكمُها، تؤرشفها فى خانات، تحلِّلُها، فيتشكّل الوعى مع مرور السنوات، وتتكوّن وجهةُ النظر فى العالم وفى البشر. غدًا يكبر الأطفال. يحبوننا لما فعلناه معهم من مواقف نبيلة، أو يحاسبوننا على كل الإساءات التى ارتكبناها فى حقهم وهم صغار. ونحنُ لا نضمن على أى نحو سيكونون حين يكبرون. قد يصبحون جلادين قساةً، فلا يرحموننا. أو يصبحون عدميين فاقدى الهدف والرجاء والانتماء.

قد ينسون رصيدهم من التجارب، فلا تتكون لديهم رؤية واضحة عن العالم. وقد يتناسون كى يتواءموا مع الحياة، ويغلقوا قلوبهم على مراراتهم. ولكن بعضهم سيختار العلاج الأرقى. يقفون على الحافة الساخرة التى تحوّل المحنَ والمواقف العسرة إلى نكات مرحة، تُضحكنا، نحن المسيئين إليهم. يتهكمون، معنا، عليها. يركبونها، ويجعلونها سهمًا ينطلق بهم إلى الأمام. إنهم يصدِّرون إلينا إساءاتِنا القديمةَ عبر ابتسامة؛ كأنما هى «لكزة» طفيفة تقول: لم أنس، وإن نسيتم، لكن من فضلكم لا تفعلوها ثانيةً، ها؟

كان هناك طفلٌ اسمه «فيليب فكرى». أدرك منذ يومه الأول فى المدرسة أنه «مختلف». فى حصة الدين، بالصف الرابع، لا يبقى فى الفصل مع زملائه، بل يخرج مع «المختلفين» مثله إلى فناء المدرسة ليلعبوا الكرة، حتى منّ عليهم المدير بمدرس «كيمياء» لا يؤهله لتدريس الدين إلا اسمه المسيحى. يجمعهم جوار حنفيات المياه ويقرأ لهم من الكتاب! وتتوالى تجليات «اختلافه» مع مراحل التعليم، وصولاً إلى الجامعة، ثم العمل، ثم الحياة، ويعايش ما يصنعه المتطرفون وما تباركه الحكومة من تمييز عنصرى يصل إلى تفجير الكنائس وقتل المصلّين. إلى أن يقرر فى الأخير أن يؤلف كتابًا عنوانه «أنا م البلد دى، يوميات قبطى»، يحكى فيه كل المرارات التى عاينها منذ طفولته وحتى شبابه بسبب «اختلافه»، ولكن بأسلوب مرح ساخر. فهذا الطفل قد كبر وصار فنان كاريكاتير، وكاتبًا ساخرًا بمجلة الكواكب، بعدما اكتشف أن المصريين يتسامحون مع أعقد الأمور وأشدها إشكالية، فقط لو مرّت عبر نكتة، وابتسامة. كتابٌ جميل، بارك صدوره فنان مصر الكبير مصطفى حسين، فأهداه غلافًا بديعًا، وصدر هذا العام عن دار ميريت. مقالى ليس حول الكتاب. فألف مقال لا يُغنيكم عن قراءته، لكى تغنموا بمتعة وعمق لا حدود لهما. إنما أكتب عن البرومو الذى بثّه المؤلف على يوتيوب حول كتابه.

يقول فى البرومو: »تخيل لو انت عايش فى بلد أوروبية، وحسيت بنوع من التمييز العنصرى اللى بيحرمك من حقوقك، مش عارف تصلى، مفيش مساجد، يعنى حسيت إنك بتتعامل كمواطن من الدرجة التانية، هتتضايق، لكن انت مغترب، هييجى يوم وترجع بلدك تعمل فيها اللى انت عاوزه. جربت تحس الإحساس ده وانت فى بلدك؟ جربت تحس إنك مواطن من الدرجة التانية وانت فى بلدك؟ عارف إن كلنا عايشين مواطنين من الدرجة العاشرة، لكن حتى دى كتيرة علينا! جربت تحس إنك مواطن غير مرغوب فيك؟ طيب جربت تحس إنك مختلف؟ أنا بدفع ضرايب. بقوم بواجباتى كمواطن. بحارب. باستشهد. بدافع عن وطنى. جربت تحس إنك ممكن يتقبض عليك لو صليت انت وأهل بيتك وكام واحد من قرايبك بتهمة الصلاة من غير تصريح؟ جربت تحس إنك لازم تاخد تصريح علشان تصلى؟

يتجول «المختلف» فى شوارع مصر، ويلتقى رجلا يسأله: «والله ألاقى صيدلية قريبة من هنا؟» فيجيبه الرجل: «فيه صيدلية الدكتور جورج. ده راجل مسيحى.. بس طيب». ويقابل عابر سبيل آخر، يسأله: «والنبى يا حاج أطلع على السنترال إزاى؟» فيجيبه: «امشى علطول لغاية ما تلاقى لا مؤاخذة كنيسة، السنترال جنبها». ولا ندرى لماذا تقترن مفردة كريمة مثل «كنيسة»، بتعبير له دلالة سلبية مثل «لا مؤاخذة»؟!.

وتتوالى مشاهد البرومو لتصل إلى المشهد السوبر، حينما نشاهد فيليب داخل بناية، لها بوابة زجاجية إـلكترونية، تنفتح لكل الناس، وكلما حاول بطلنا الخروج، ينغلق الباب فى وجهه دون سواه، وفى الأخير ينغلق الباب على ساعديه، لتصعد أغنية «واحنا واقفين ع الحدود» بصوت فرقة المصريين على موسيقى عمار الشريعى. كأنما يقول لنا إن المختلفين فى مصر، يقفون على حدودها، غير قادرين على الانخراط فى متن نسيج وطنهم، بسبب اختلافهم.

وفى نهاية العرض، وبصوت عال يهتف فيليب: «أنا م البلد دى» لكنه يعود ويختتم البرومو بوضع علامة استفهام (؟) فى نهاية الجملة، وكأنه بدأ يتشكك فى الأمر، ويسألنا: هل أنا من البلد دى؟ وهنا، أترك لكم الإجابة عن هذا السؤال الصعب!

لم أشأ أن أحرق لكم هذا البرومو، الجارح الشارخ، العذب المعذِّب، الشائق الشائك. لكننى لم أذكر إلا القليل من كثير مدهش ومثير. شاهدوه هنا:
http://www.youtube.com/watch?v=iPipWZwF_Zw
وأعدكم أنكم لن تناموا ليلكم. رغم أنكم لن تشاهدوا ما يخدش عيونكم، لكن ستشعرون بما يخز روحكم عميقًا. تأملوا ماذا حدث للمواطن المصرى، الذى جاء العالم، ليجد أن اسمه «فيليب» فى بلد اسمها مصر. شاهدوا وابتسموا، ثم فكروا مليًّا. وبعدها اقرأوا الكتاب الجميل «أنا م البلد دى، يوميات قبطى ساخر».





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة