أتفهم الغضب الشخصى الذى عبر عنه عديد من القراء المنتسبين إلى جماعة الإخوان، تعليقا على سلسلة المقالات السابقة التى عرضت فيها اقتراحا بحل "الجماعة" وبدء صفحة جديدة قوامها العمل الحزبى السياسى المنضبط وفق الدستور والقانون.
والحق أن أجيالاً عدة من المصريين قد عاشت زمن انحسار الدولة وتخففها من جميع أعبائها تجاه مواطنيها، كما عاشوا ما ترافق مع ذلك من تقزم وضعف وتراجع فى الدور الإقليمى وفى إمكانية أن يتحول المكان إلى مكانة والوطن إلى مواطنة نعتز بها، ولذا بحث كل مواطن بقدر ما يعرف ،عن أشكال بديلة من الحماية والانتماء يلوذ بها من أزمنة القحط والانحطاط.
والحق، أن جماعة الإخوان المسلمين بأساسها التنظيمى القديم والقوى قد وفرت لأعضائها مظلة تعويضية على كافة المستويات فى زمن انحسار الدولة، فمن خلالها يمارس نشاطه ويحقق ذاته ويجد التعاضد والمساعدة والتكافل والعلاقات الاجتماعية داخل "الأسرة" و"الشعبة" و"المنطقة" و"الإدارة"، لذلك عندما يقرأ شاب منتسب أو عامل داخل "الجماعة" مقالاً يحدثه عن حل "المظلة" التى تحتويه، لابد أن يغضب قبل أن يفهم، لأن الخيال الذى يراوده يحيله على الفور إلى مشاهد انهيار المنظومة التى ترعاه وتحقق ذاته وتمنحه الأمان والصحبة فى زمن الخوف والمجهول.
لكنى، من ناحية أخرى أريد لهذا القارئ الشاب أن يتفهم ما هو أبعد من حدود الطاعة المطلقة المفروضة عليه داخل "الأسرة" أو "الشعبة" الإخوانيه، فإذا فعل سيزول غضبة وقد يشارك فى بناء مرحلة جديدة نرجو فيها أن تستعيد الدولة أدوارها، وأن يحكمنا فعلاً الدستور والقانون وأن يتساوى جميع المصريين فى حقوقهم وواجباتهم.
أريد لهذا القارئ الشاب الغاضب أن يتفهم أن اللحظة التى نعيشها ليست هى نفسها لحظه ولادة جماعة الإخوان ولا لحظة تحولها، تحت وقع الضربات الأمنية، إلى جماعة سرية تعمل تحت الأرض، وأن إصرار قيادات مكتب الإرشاد على الوضع الملتبس قانونيا وسياسيا للجماعة قد يضر بتلك المطلة الدعوية نفسها كما يضر بالهدف العام وهو أن نتشارك جميعا فى بناء مرحلة جديدة من العمل الوطنى دون سيطرة من فصيل أو إقصاء لفصيل، على أن تكون الضمانة لذلك من الدستور والقانون وحدهما .
أريد لهذا القارئ الغاضب أن يتفهم طبيعة الصراع القديم والمستمر بين مشروعين أساسيين فى المنطقة العربية ،المشروع المصرى للدولة المدنية الحديثة المتطورة والمشروع السعودى للدولة الدينية المتطرفة التابعة، وكيف تناوب المشروعان فترات الانتصار والانكسار، فشهد انتصار النموذج المصرى للدولة المدنية إعلاء قيم التطور والتحديث فى المنطقة العربية كلها، وشهد نجاح المشروع السعودى الوهابى فى إضعاف النموذج المصرى القفز لقيادة المنطقة خاصة بعد هزيمة 1967، وجرها إلى الضعف والتبعية للقوى الاستعمارية.
وأريد لهذا القارئ أن يفهم أن جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات المتأسلمة كانت ومازالت هى حلقة الوصل والمعبر للنموذج السعودى الوهابى الرامى إلى إضعاف الدولة المصرية منذ إنشائها عام 1928 بتأثير الشيخ رشيد رضا وكيل الوهابيين فى مصر مررواً بهجرة قيادات الجماعة إلى السعودية ودول الخليج أواسط القرن الماضى وانتهاءً باللحظة الحاضرة التى لا يسعى فيها "فلول الوطنى" وحدهم إلى احتواء ثورة الشعب المصرى العظيم فى 25 يناير، بل وفلول الوهابية والأنظمة العربية الرجعية التى لا تريد لهذا المشروع الثورى أن يكون مدينياً تحديثياً يعيد ما انقطع من مسار التقدم.
لذلك لم يكن مستغرباً تلك الفورة للتيارات الدينية فور نجاح الثورة، رغم أنها لم تشارك بها بل وأدانتها باعتبارها خروجاً على ولى الأمر، فلما نجحت وظهر لها الاستقرار، أرادت أن تكون فى صدارة الصورة وأن تصبغ العهد الجديد بصبغتها، وأن تفرض تصورها الضيق للعالم والدولة وشكل الحكم، ولذلك أيضاً لم تكن مستغرباً ذلك التمدد والنشاط لجماعة الإخوان من فتح مقار وفروع جديدة والإدلاء بسهم فى جميع أمور الدولة من موقع الوصاية لا من موقع المشاركة، وتصوير الانتخابات البرلمانية المقبلة على أنها غزوة جديدة من غزوات الصناديق ستمنح "الجماعة" شرعية الحكم التى حلم بها طويلاً المرشد المؤسس وتابعوه، وكأنه الثأر من الأيام ومن مشروع الدولة المدنية الحديثة، وكأنى بالمرشد المؤسس يردد فى قبره بيت المتنبى "أريد من زمنى ذا أن يبلغنى.. ما ليس يبلغه من نفسه الزمن"، وكأنّى من خلال ما كتبت من مقالات سابقة أردت أن أقول له: " تلك أمانيّهم".
موضوعات متعلقة...
الشعب يريد إسقاط "الإخوان"
الشعب يريد إسقاط الإخوان- 2
حل جماعة الإخوان
حل جماعة الإخوان.. المأزق والفرصة
المرشد العام والمرشد الأعلى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة