بدأنا أمس الكلام عن تحديد شخصية الرئيس- أى رئيس- طبقا لعلاقته بوالدته، وقلنا لكى تعرف كيف يفكر الرئيس وإلى أى شئ ستكون نهايته لابد أولا أن تعرف كيف كانت علاقته بوالدته وكيف انتهت؟ وضربنا نموذجا لعلاقة عاطفية من نوع خاص ربطت بين جمال عبد الناصر والسيدة فهيمة والدته، وكيف كانت تلك العلاقة سببا فى كاريزما ناصر العاطفية والخطابية، واليوم نطبق نفس طريقة التحليل على الرئيس الراحل السادات عبر علاقته بوالدته "ست البرين".
لم يشعر محمد أنور السادات بضمة صدر الأم ولم يستشعر هذا الحنان الصادر من لمسات الأم العاطفية لوليدها، فلم يكن أمام "ست البرين"، والدة السادات، فرصة أو وقت متاح لتمارس مع وليدها تقاليد الحب والعاطفة التى تفرضها الطبيعة والفطرة على الأم ووليدها.. فقد السادات العلاقة الأهم فى تاريخ الإنسان.. فقد تلك العلاقة الحميمية الخاصة بأمه.
ويبدو أن تلك العلاقة المفقودة قد تسببت فى حالة القلق والعصبية التى اتصف بها الرئيس الراحل أنور السادات وحالة عدم الثقة التى دفعته دون أن يدرى ليهوى مسألة اتخاذ القرارات المنفردة والحركات الصدامية، كما أفقدته ذلك الشعور الغريزى بالأمان مما جعله على تلك الحالة المتقلبة التى تكره يوم الأحد وتحب فى يوم الثلاثاء ما كرهته فى يوم الأحد.
نعود لوالدة الرئيس الراحل "ست البرين" والتى لم تكن تملك من الوقت ما يكفى لتمنح أبناءها تلك العاطفة التى تعرف بعاطفة الأمومة والسبب أن محمد محمد الساداتى والد الرئيس الراحل حينما سافر عام 1914 إلى السودان سافر مع زوجته الجديدة "ست البرين" ولم يكن مستعدا كما قال هيكل فى كتابه خريف الغضب لمشاكل الولادة فكان كلما اقتربت "ست البرين" من موعد الولادة أرسل بها زوجها إلى أمه فى مصر لتلد تحت رعايتها فى رحلة مرهقة تستقل عبرها باخرة نيلية منحشرة وسط كم هائل من البهائم والبنى آدمين حتى تصل إلى الشلال وتواصل رحلتها سيرا حتى تصل إلى محطة القطار بأسوان ومن هناك تسافر إلى ميت أبو الكوم لتضع مولودها، حتى ميلاد السادات فى ديسمبر 1918، كانت رحلة شاقة وعجيبة مثل رحلة حياته بالضبط، وبعد أن مكثت "ست البرين" مع وليدها محمد أنور السادات فترة الرضاعة تركته وعادت إلى السودان.. وفقد السادات أمه.
فى الريف المصرى أحيانا ما تفقد الأم كل سلطاتها العاطفية والحياتية على أولادها وبيتها لمصلحة والدة زوجها، خاصة لو كانت المرأة الكبرى أو ست البيت، كما يقولون، تتمتع بشخصية قوية وهذا ما كانت تتصف به "أم محمد " جدة السادات التى تولت رعايته والتى وصفتها كل الكتب ووصفها السادات نفسه فى كتابه البحث عن الذات بأنها كانت سيدة قوية الشخصية وفى الموروث الشعبى حينما يكون الرجل تربية امرأة مشهور عنها قوة الشخصية فإنه غالبا لا يرث عنها تلك القوة بل يرث عنها التبعية وهذا استخدمه العبض فى تفسير علاقة السادات بعبد الناصر وحالة صمت وسكون السادات التى كانت لافتة للنظر فى علاقته مع عبد الناصر ويفسر أيضا رغبة السادات فى أن يضع أوراق اللعبة فى أيدى الولايات المتحدة ورغبته فى التبعية إلى دولة قوية.
فى كتابه خريف الغضب يحكى هيكل عن عودة محمد الساداتى وزوجته ست البرين أنهما أتيا إلى القاهرة سنة 1924 للسكن فى كوبرى القبة وانتقال السادات وجدته "أم محمد" للعيش مع الأب والأم.. غير أن عودة السادات لم تكن كما تظن عودة إلى حضن الأم الذى افتقده، بل كانت عودة لمشاهدة مأساة أم تزوج عليها والده مرتين لتتحول إلى امرأة من الدرحة الثالثة تؤدى خدمات المنزل "لفطوم" الزوجة الثانية و"لأمينة" الزوجة الثالثة للأب محمد الساداتى، يقول هيكل " يمكن تصور حالة الصبى " أنور " لعله كان يفتقد حياته فى القرية وربما كان يشعر بالحنين لحريته فيها، لكنه الآن عليه أن يرى أمه تعود إلى مستوى العبودية وتخدم البيت، لم يكن هناك من يهتم بأمر الطفل الصغير وسط هذا الزحام وكان مقدرا له أن يرى مهانة أمه تتكرر أمامه يوميا، وكان يقضى معظم وقته صامتا فى الغرفة التى تسكنه أمه وبقية إخوته، وبدأ يتراجع داخل نفسه ولم يعد هناك مهرب من حقائق الحياة الكئيبة التى يشاهدها يوميا سوى فى أن يختلق لنفسه عوالم من الخيال يهرب إليها.
هكذا تكونت شخصية أنور السادات وأثرت فيه والدته الذى قال عنها هيكل إنها كانت من العبيد لأنها ابنة رجل يسمى خير الله وقع فى أسر العبودية وساقه أحد تجار العبيد إلى القاهرة وحينما ألغى نظام العبودية فى مصر تم عتق خير الله وحصل على حريته ويرى هيكل أن هذه القصة بالإضافة إلى البشرة السوداء التى ورثها السادات عن أمه قد أثرت فيه كثيرا بالسلب.
غير أن كلام هيكل وكلام الآخرين السابق عن والدة السادات "ست البرين" نفته بشكل كامل السيدة إقبال زوجة السادات الأولى فى حوار لها مع مجلة آخر ساعة، حينما قالت إنها عاشت مع ست البرين 20 سنة وكان والدها سودانى الجنسية أسود اللون جاء للقاهرة وكافح كثيرا وجاء للمنوفية وعمل عند أحد أعيان القرية ويدعى عبد الله عفر وبعد سنوات نجح فى شراء قطعة أرض فى ميت أبو الكوم وكان خير الله متزوجا من امرأة مصرية بيضاء جميلة اسمها "بمبة" أنجبت له ثلاث بنات هن (نظلة،ست البرين، آمنة) والأولى كانت بيضاء مثل أمها، أما الثانية والثالثة فحصلتا على لون بشرة الوالد.
عموما الظروف التى نشأ فيها السادات كانت صعبة، لم يعرف طعم العلاقة الطبيعية بين الأم ووليدها وعرف بدلا منها تلك العلاقة القوية التى تربط الجدة بحفيدها، ومن المؤكد أن فقدانه للعلاقة الأولى وقهره فى العلاقة الثانية كان سببا مباشرا فى تلك الحالة القلقة والصادمة التى عاشها السادات.
- غدا نعرف سر علاقة الرئيس السابق حسنى مبارك بوالدته وكيف تسببت تلك العلاقة فى هذه النهاية المأساوية التى يعيشها.