ظن السوريون مثل غيرهم من الشعوب العربية أن جيشهم العرمرم الذى يتم إعداده وتجهيزه بأحدث الأسلحة وأفضل التدريبات، يستحق أن يقدموا له الغالى والنفيس, بل يجب أن يقتطعوا من قوت يومهم من أجل جيشهم الذى ينتظره مهمة جليلة وعظيمة، وهى تحرير الأرض والوطن من الاحتلال الصهيونى البغيض الذى ينعم بالجولان وتفاحها وكل خيراتها على مدار سنوات طويلة.
فجأة استيقظ السوريون والعرب جميعاً على مشهد أرتال الدبابات تخرج من سكناتها والمصفحات تخترق العاصمة دمشق والطائرات تحلق فى السماء، اعتقد الجميع أن ساعة الصفر قد حانت ووقت التحرير بدأ، والجولان بات قريباً منهم والكرامة قادمة إليهم بعد غياب طويل، ولكن السوريين اكتشفوا أن ما كانوا يعيشوه ما هو إلا حلم جميل ومحاولة من النظام البعثى للاستيلاء على ثرواتهم، وتكميم أفواههم وتقديم التضحيات بحجة إعداد الجيش للدفاع عن وطنهم، فقد كشفت الثورة السورية القناع وتم تعرية النظام من الشعارات الرنانة التى كان يحتمى خلفها عندما اكتشف الشعب أن الجيش الذى كانوا يعتزون به غيًر طريقه وبدًل عقيدته ووجه مدافعه ورشاشاته صوب أبناء الوطن انتقاماً منهم على تفكيرهم فى التغيير، ومطالبتهم بالحرية والعيش فى أجواء ديمقراطية.
لقد شن الجيش السورى على مدار الأسبوعين الماضيين حرباً شرسة على العديد من المناطق بدءًا من درعا وبانياس وغيرهما من المدن على غرار ما يفعله الجيش الليبى والجيوش العربية الأخرى.
لقد اعترض بعض الزملاء السوريين الذين أعتز بهم عندما كتبت قبل عدة أسابيع عن ديكتاتورية نظام بشار الأسد، وذكرت أن الجبهة السورية الإسرائيلية كانت الأكثر هدوءاً بلا منازع منذ عام 1973، وأن المظاهرات فى سوريا أصابت الإسرائيليين بالخوف والرعب من رحيل نظام بشار الأسد، باعتباره حليفا مهما بالنسبة لهم، وأن شعاراته لم تكن سوى ذر للرماد فى العيون ودور مطلوب منه القيام به، وأنه لم يفكر فى تحريك جندى واحد تجاه إسرائيل، ولكن بعد هجوم الجيش السورى بكل معداته على الشعب السورى تغير رأى أصدقائى ومعهم الكثير من السوريين، متسائلين هل يمكن لجيش يقتل شعبه أن يفكر فى تحرير وطنه؟
لقد كشفت الثورات العربية أن الميزانيات الضخمة التى تنفقها الدول العربية على تسليح الجيوش لا تهدف إلى حماية الوطن وتحرير الأرض ومواجهة العدوان، وإنما لحماية النظام والرئيس وحاشيته فقط، حيث انضم الجيش السورى منذ اليوم الأول لاندلاع المظاهرات المطالبة بالحرية إلى الشرطة المدنية لقمع المتظاهرين، ولكن اقتحامه لمحافظة درعا وغيرها من المدن الأخرى وضرب المساكن والسكان بالأسلحة الثقيلة، أكد للجميع أن الجيش السورى والجيوش العربية لم يتم إنشاؤها وتطويرها وإنفاق البلايين عليها للتحرير، وإنما لحماية النظام وتأديب الشعوب التى ترغب فى التغيير.
إن ما حدث فى سوريا وليبيا يؤكد أن إلغاء الجيوش العربية وبنائها على أسس صحيحة أصبح ضرورة لابد منها لأسباب كثيرة، حيث إن جميع هذه الجيوش لم تحقق أى انتصار يذكر ضد أعدائها باستثناء ما حققته مصر عام 1973، كما أن الجيوش العربية تفنى نفسها ضد بعضها البعض أو ضد شعوبها، فقد أفنى الجيش العراقى قواته فى حربه ضد الكويت والدخول فى حرب الخليج الأولى والثانية، كما أفنى الجيش اليمنى قواته فى حروبه الداخلية والصراع بين الشمال والجنوب، كذلك الأمر فى الجزائر التى سخرت جيشها لمحاربة الجماعات الإسلامية والإرهاب وغيرها من الإدعاءات، الأمر ليس بأفضل حالاً فى باقى البلدان، بل أشد سوءاً كما هو الحال فى السودان التى أنهت 20 عاماً من الحرب الأهلية بانفصال دولة الجنوب، والآن بدأ الجيش يدخل فى صراع جديد مع جماعات من درافور، وكأنه قدر مكتوب على الجيوش العربية.
إذا كان هذا هو حال الجيوش العربية، فلماذا يتم الإنفاق عليها بسخاء؟ ولماذا تأخذ النسبة الأكبر من ميزانيات الدول بالرغم من الفقر المدقع الذى تغرق فيه الشعوب؟ ولماذا لا يتم توجيه هذه الأموال إلى التنمية؟ إن الشعوب العربية أمام تحدٍ جديد بعد أن تأكدت أن جيوشها تعمل ضدها وتسلب أموالها لحماية عدة أشخاص وليس لصد عدوان خارجى أو تحرير الوطن كما يدعون.
إذا كان الجيش المصرى اكتشف أن الأسلحة التى حصل عليها فى عام 1948 فاسدة، فإن الثورات العربية كشفت أن الفساد ليس فى الأسلحة فقط، وإنما فى العقيدة أيضاً، لذا فإن الجيوش العربية تحتاج إلى إعادة بناء من جديد بعد أن بُنيت على الولاءات للأشخاص والحصول على العمولات من شركات إنتاج الأسلحة، وليس على الولاء والانتماء للوطن.
لقد أثبتت الأنظمة العربية أن الدول ليست سوى "عزباً خاصة" بهم، وكل ما فيها يعمل لخدمتهم وحمايتهم، بل عندما يتم تغيير قانون نتيجة بعض الضغوط مثلما حدث مع قانون الطوارئ فى سوريا، يكتشف الناس أن إلغاء القانون ما هو إلا حبر على الورق وكلام معسول أمام الشاشات، فقد استمر القمع والتفتيش والقتل والحرمان من أبسط حقوق الحياة كما حدث مع سكان درعا الذين تم قطع الكهرباء والاتصال، وكل مقومات الحياة عنهم.
إن النظام البعثى وغيره من الأنظمة العربية الاستبداية لا يحتاج إلى قوانين للتنكيل بالشعوب، لأن الاستبداد عقيدته والقمع أسلوبه الوحيد فى الحياة.
وبالرغم من انتشار جيوش الفساد فى الدول العربية، إلا أن نجاح الجيش المصرى يؤكد أن الأمل فى التغيير نحو الأفضل أضحى قريباً، فقد أكد الجيش المصرى أنه الاستثناء الوحيد بين الجيوش العربية فهو الوحيد الذى حقق انتصاراً على إسرائيل، وانحاز إلى الشعب فى كل الأزمات، وأثبت على الدوام أنه خير أجناد الأرض، وأن عقيدته لن تتبدل وسياسته لن تتغير وولاؤه للوطن وليس للأشخاص، نأمل أن يكون ملهماً للجيوش الأخرى مثلما كانت الثورة المصرية والتونسية ملهمة للثورات العربية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة