الكلام المبنى للمجهول يصنع كثيرا من المطبات اللغوية التى تصنع بدورها حالة من التوهان وأحيانا سوء الفهم، نفس التأثير ينتج عن الأفعال التى لا نعرف لها صاحبا أو محرضا أو محركا، الأمر يشبه الحالة التى يعيشها الشارع المصرى الآن بعد أحداث إمبابة والاشتباكات الطائفية التى انتهت بحرق كنيسة وقتلى ومصابين، التوهان هنا سيد الموقف لأن المتهم مازال غير واضح، بعض الأصابع تتهم التيار السلفى، بينما أصابع أخرى أطول منها تتهم مخابرات أجنبية، وبقايا جهاز أمن الدولة بالتخطيط والتحريض لإشعال تلك الفتن المتعاقبة بداية من أطفيح وحريق كنيسة قرية صول ثم أحداث المقطم وحتى اشتباكات إمبابة التى جاءت أكثر دموية.
اتهام جهاز أمن الدولة هنا لا علاقة له بنظرية المؤامرة وألاعيبها وخيالها الذى يشطح بالبعض أحيانا، بل له علاقة قوية جدا بتلك الأمور التى كانت معلومة بالضرورة فى كل شارع وكل حارة بأن هناك خيطا ما من التعاون يربط بين التيار السلفى وجهاز أمن الدولة تتضح معالمه فى تلك الفضائيات، التى كانت تظهر بلا حساب فى بلد كان الظهور الفضائى فيها لا يحدث إلا بإذن أمن الدولة، وفى حرية عقد اللقاءات والخطب والندوات فى مساجد وجميعات كلنا نعلم أن تراخيصها تخرج من جهاز واحد فقط هو أمن الدولة.
اتهام أمن الدولة يرتبط أيضا بتلك الخدعة الكبرى والمقلب الجامد والوهم الكاذب الذى خلقته وزارة الداخلية ومررته حكومة الدكتور شرف لكى نشربه كلنا ونحن راضون بما تقدمه لنا حكومة الثورة التى هتفنا لرئيسها فى ميدان التحرير، المقصود بالخدعة هنا هى لعبة وزارة الداخلية المعروفة باسم حل وتفكيك جهاز أمن الدولة، المتهم الأول فى إفساد هذا الوطن، واستبداله بجهاز أمنى آخر يحمل لقب "جهاز الأمن الوطنى".
المقلب هنا يشبه تماما تلك الحدوتة الشهيرة التى تتحدث عن هؤلاء السذج الذين جاءوا إليهم بشوال ملح وكتبوا عليه سكر، فهتفوا مهللين من شدة الفرحة قبل أن يذوقوا مر الملح ويكتشفوا الخدعة، الحق يقال، إن عملية النصب الكبرى التى قامت بها وزارة الداخلية، فيما يخص أمر حل جهاز أمن الدولة وإعادة تصديره للناس فى ثوب وشكل جديدين كانت عبقرية منذ الخطوة الأولى التى بدأت فى ليلة اقتحام مقرات أمن الدولة فى المحافظات وهو الأمر الذى تم فى سهولة وسلاسة لا تتناسب أبدا مع تحصينات تلك المقرات وتحديدا مقر الجهاز فى مدينة نصر الذى لا يمكن بأى شكل من الأشكال اقتحام أبوابه الأمنية التى يتكلف الواحد منها مليون جنيه دون رغبة القائمين على الجهاز فى حدوث ذلك، الدلائل على وجود تسهيلات لاقتحام هذه المقرات كثيرة ويمكنك الرجوع إليها فى أى وقت، ولكن الأهم هنا أن ماحدث خلق نوعا من الإيهام بأن الجهاز سقط وتم تدميره حينما دمرت وحرقت مقاره الرئيسية والفرعية، ثم استكملت وزارة الداخلية الخطة بإعلان شفوى عن إعادة تقييم ضباط الجهاز من أجل استبعاد السيئ منهم من تشكيل الجهاز الجديد، ثم أتممت الخطة بالإعلان عن اسم جديد للجهاز هو "الأمن الوطنى" مع تعهد شفوى دون أى ضمانات بعدم تدخل الجهاز الجديد فى الحياة السياسية.
عبقرية عملية النصب هذه لا يمكن أن ننسب فضلها بالكامل لوزارة الداخلية الحالية لأن الخطة التى نفذتها حكومة الدكتور شرف لحل جهاز أمن الدولة بعد الثورة هى نفسها الخطة التى يتم تنفيذها مع الجهاز كلما اشتعلت فى مصر ثورة وكلما علت موجة الغضب الشعبى على الجهاز ورجاله، حدث هذا بعد ثورة 19، ثم تكرر بنفس السيناريو بعد ثورة يوليو، ثم تكرر المشهد بكل تفاصيله بعد ثورة التصحيح فى 1971 مجرد تلاعب فى الوجه وملامح الجهاز وإداراته، وتغيير فى الأسماء مع فترة سكون وصمت وهدوء دون تقديم أى اقتراحات قانونية أو خطوات ملموسة لضمان عدم عودة الجهاز إلى ماهو عليه مرة أخرى.
تغيير اسم الجهاز هو أكثر لعبة تم استخدامها للتهرب من جرائمه وصورته الذهنية السيئة فى عقول المصريين، الجهاز الذى بدأ فى 1910 باسم مكتب الخدمة السرية، ولد من يومه لوظيفة محددة وواضحة هى تعقب الحركة الوطنية والقضاء عليها، كما أعلن مؤسسه السير ألدون جوست، وطبقا لما أورده الخبير الأمنى اللواء حسن الوشاحى فى دراسة له قيد الإعداد عن جهاز أمن الدولة، فإن لعبة تغيير اسم الجهاز بدأت بعد ثورة 19 حينما تورط رئيس الجهاز وقتها فى فتح كوبرى عباس على طلبة الجامعة المتظاهرين وحمل الجهاز بعدها "قلم ضبط ب" ثم القسم السرى الخصوصى، وللهروب من الغضب الشعبى تم تغيير اسم الجهاز قبل ثورة يوليو وحمل اسمه الشهير "القلم السياسى" وفى تلك الفترة تعملق الجهاز وتجبر وأصبح أكبر وأخطر أدوات القمع فى مصر كلها، وهو الأمر الذى دفع جمال عبد الناصر لأن يتخلص منه ومن الغضب الشعبى عليه وعلى رجاله بتغيير اسمه إلى جهاز المباحث العامة، ولكن على نفس الطريقة طريقة تغيير الأسماء والملامح فقط أما الجهاز نفسه فظل على حاله يمارس تتبعه للمعارضين والتجسس على على الصغيرة قبل الكبيرة فى مصر، وعقب ثورة التصحيح والكشف عن التسجيلات والمعتقلات أراد السادات أن يلعب اللعبة نفسها ويثبت للناس أنه قادم وفى يده الحرية، وبالتالى كان لابد أن يتخلص من جهاز التسجيلات والبطش المعروف وظهرت القضية الشهيرة بقضية انحراف قيادات جهاز المباحث العامة وتم القبض عليهم، وبعدها اتبع السادات نفس الخطة القديمة وقام بتغيير اسمه إلى جهاز أمن الدولة ومع مرور السنة وراء الأخرى فى فترة السادات بدأ الجهاز يأخذ شكله المرعب الذى أصبح عليه فى عصر الرئيس السابق حسنى مبارك، بحيث أصبح متحكما فى كل الأمور، فلا ورقة رسمية فى مصر تأتى أو تذهب إلا بعلم أمن الدولة، ولا أحد يتنفس الا باسم الجهاز الذى امتلك الحق فى التعذيب والاعتقال وتسجيل المكالمات واختطاف المعارضين فى الشوارع دون أن يملك أحد حق الاعتراض حتى القضاء نفسه، وحينما اشتعلت ثورة 25 يناير وخرج الناس يطالبون برقبة رجال جهاز الدولة ويرفعون شعار حل أمن الدولة والقضاء عليه قبل شعار رغبتهم فى رغيف عيش بلا مسامير لجأت وزارة الداخلية وحكومة الدكتور شرف إلى نفس الخدعة القديمة وقامت بتغيير اسم الجهاز دون تقديم أى ضمانة حقيقية أو قانونية تكفل عدم عودته إلى وضعه السابق.
**غدا باقى تفاصيل خدعة حل جهاز أمن الدولة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة