أثارت المقالات الثلاثة عن التليفزيون ردود أفعال كنت أتوقعها ليس لأننى أتمتع برؤية ثاقبة, ولكن لأن مبنى التليفزيون مثال مصغر لمصر. حيث فقدنا كثيرا من الموضوعية والوسطية حتى فى الخصومة، فأنت إما معى أو ضدى، ولو كنت معى فأنت صديق ولو كنت غير ذلك فأنت عدو تستحق الرجم.
وقد رجمنى بعض أهل المكان وكأنى كنت أتهمهم بشكل شخصى حين تحدثت عن سلبيات مكان يضم آلاف البشر على اختلاف نوعياتهم، فى النهاية يمثلون نماذج سلبية وإيجابية فى ذلك البلد.لم أكتب عن مبنى ماسبيرو لأكون صديقة أو عدوة لأحد بل يعلم الله أنى ما كتبت إلا لكى أضع أمام القارئ نموذجا من كثير من مؤسسات مصر الإعلامية وخاصة الحكومية التى تئن من التخمة, وهو ما أتمنى أن يتغير. والتغيير لا يمكن أن يأتى إلا إذا وضعنا أيدينا على أسباب الداء ولو لم يقتنع أهل ماسبيرو ومصر كلها أن العيب ليس فى حكامهم فقط ولكن فيهم أيضا وأننا جميعا بحاجة لتربية أنفسنا على العمل الجاد والتركيز فيه والتعود على العمل الجماعى وكثير من الخصال التى نفتقدها فعلينا أن ننسى, فلا ثورة ولاعشر ثورات كفيلة بأن تحسن أحوالنا لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيرو ما بأنفسهم.
وأخيرا فإن اكتسبت عداوات مما كتبت فقد ربحت فى مقابلها وهو الأهم احتراما لدى بعض الذين يدركون أن المصريين بحاجة لثورة أكبر على سلبياتهم مثل الثورة على حكامهم سواء كان الحاكم رئيساً أو وزيراً أو مديراً.
الفصل الأخير
كانت مصر كلها تعانى مما يعانى منه أهل ماسبيرو فهم من أهلها, وإن بدا لمن ليسوا منه أنه لسان حال الحكومة وبالتالى فأهله مسؤولون وموافقون عما يجرى على شاشاته من تأييد لحكم كنا جميعا نعانى منه.. ولكنى أشهد بأن النكات الساخرة من الحكومة التى كنت أسمعها من أهل ماسبيرو سواء من كبار المسؤولين أو صغارهم لم تكن إلا دليلاً على رفضهم لواقع سياسى واجتماعى رافضين له ولكنهم لا يملكون من مقاومة له إلا النكتة والسخرية منه وهى صفة أصيلة فى تكوين المصريين على مدى العصور.
وجاء يوم 25 يناير وما تلاه من أحداث لم يكن فى حسبان أحد أنها ستحدث بهذه السرعة، وحين أتى يوم 28 وأدركت كأم أن ابنى وأبناء آخرين قد يُقتلون على يد قوات الشرطة وأنهم يطالبون بما أطالب به عمراً قررت أن أكون معهم ولتكن نهايتنا واحدة لو أراد الله وكان ماسبيرو يبث أكاذيب حول ما يحدث فى ميدان التحرير. قررت فى صباح يوم 29 يناير أن أتجه إلى مبنى ماسبيرو المبنى الذى عملت فيه بعض الوقت وأزعم أنى أعرف فيه بعض أصحاب القرار فمشيت على قدمى باكية حتى مبنى ماسبيرو الذى أحاطته القوات من كل مكان ودخلت إليه كمواطنة مصرية تطلب أن تقول الحقيقة لاهله علهم يجهلونها رغم ثقتى من الفشل ولكنى كنت أحلم بالأمل.
وصلت إلى مكتب رئيس الاتحاد أسامة الشيخ ودخلت عليه فوجدته واضعا يده على رأسه منكسا وجهه فحين رآنى سألنى كيف وصلت وكيف هى أحوال الميدان وحين رجوته بكل ما بيننا من مودة أن ينقلوا الحقيقة على الشاشة قال لى شهادة أشهدها للتاريخ وأمام الله «أنا أجلس هنا مغلول اليد الوزير وعبد اللطيف المناوى هم من يديرون المعركة لدرجة أننى كدت أضرب المناوى ولكنهم منعونى، اصعدى للوزير ربما سمعك, أتمنى أن أرحل من هذا المكان الان إلى التحرير ولكن لا أجد وسيلة للهروب». صعدت إلى الدور التاسع حيث مكتب وزير الإعلام أنس الفقى وحين دخلت غرفة السكرتارية التى تؤدى لمكتبه وجدت الفقى واقفا يراقب المشهد الذى يجرى أمام المبنى من خلف الشباك وفوجئ بى فسألنى كما سأل أسامة الشيخ عن كيفية وصولى للمبنى فوقفت أمامه باكية كأم أطلب منه أن تظهر الحقيقة على الشاشة لان هؤلاء الذين يقولون عنهم بلطجية منهم ابنى وقد يُقتل ولا أخجل أن أقول إنها المرة الاولى التى أتوسل فيها لمسؤول ولكن توسلاتى كانت توسلات مواطنة وأم تخاف على بلدها وابنها معاً.
وأشهد أمام الله أن ما سأنقله حدث دون زيادة او نقصان حين قال لى الفقى «وهل هؤلاء، مشيرا للمتظاهرين فى الشارع، سيفهمون الحقيقة؟. صرخت فيه قائلة: نعم. فطلب منى أن أعود لبيتى لانه لن يستطيع حمايتى وما كنت بحاجة لحمايتة بل هو الذى كان بحاجة لحماية من آخرين.
وعدت مرة ثانية للدور الثامن حيث مكتب أسامة الشيخ الذى قال لى ما إن رآنى ألم أقل لك انه لا فائدة، ونظر إلى شاشة التليفزيون أمامه والتى كانت تظهر عليها قناة العربية مصورة اكتمال احتراق مبنى الحزب الوطنى وقال «احتراق مبنى هذا الحزب رمز لاحتراق الظلم، إبقى طمنينى على مصر».
النهاية وربما البداية
وكان ذلك آخر عهدى بمبنى ماسبيرو ولم أعد له ثانية, ولكنى كنت أرقبه مثل غيرى، مكان ومبنى يحتاج يحتاج لثورة خاصة ليست كتلك التى يقوم بها المعتصمون فى البهو الداخلى أو خارجه, ولكنه محتاج ليد قوية وعقل راجح وخيال واسع يقر بأنه لا صلاح لهذا المكان إلا إذا تم التخلص من الترهل الوظيفى المتمثل فى آلاف من الموظفين ومن هم محسوبون على أهل الإعلام وما هم بذلك. المكان والبشر محتاجان لإعادة صياغة وتسكين, والأيدى المرتعشة لن تستطيع إصلاح ولكن سيبقى الوضع على ما هو عليه. وأزعم أن من تولى مسؤولية المكان وهو د.سامى الشريف غير مؤهل لهذه المهمة فى الظروف العادية فكيف به فى مثل هذا الظرف؟ فمسؤول يخرج بقراراته على الهواء، ويجرى بينه وبين بعض العاملين معه تراشق مثل ما شاهدناه على الشاشات,ويقبل ان يعلن قراراته على شاشات أخرى غير التى يديرها وكثير مما نراه ونسمعه منه, لا يدل إلا عن مسؤول فى غير محله ولا وقته. والناس على دين حكامهم غالبا فكيف بمكان يرأسه سامى الشريف ويعج أساساً بآلاف فى غير محلهم. كلمة أخيرة: لم يكن كل ما شاهدته فى تجربتى بماسبيرو خطايا ولا رأيته قلعة للخطيئة، ولكن حين يراه ويقول عنه ذلك العاملون فيه فلا أملك إلا أن أتمنى زوال كل قلاع الخطايا فى مصر حتى ولو كان ماسبيرو.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة