كلنا ساهمنا فى صناعة الرئيس الفرعون وحولناه إلى إله فوق النقد وفوق البشر والشعب.
فأدبيات خطاب النخبة – كل النخبة– فى الإعلام والفضائيات، كانت تقوم على مهاجمة كل مسئولى نظام مبارك من أصغر موظف فى المحليات، مرورا بالمحافظين وانتهاء برئيس الوزراء، دون أن يجرؤ أو يملك شجاعة الاقتراب أو المساس بهيبة الرئيس الفرعون.
وكان هذا الخطاب- الذى استشرى فى السنوات الأخيرة من جانب النخبة على اختلاف انتماءاتها السياسية والإعلامية والفكرية، ومن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار- يروق للفرعون ويطربه، حتى أصبح المشهد وكأن كل مسئولى النظام هم شلة أشرار يرتكبون الآثام والكبائر والموبقات، وأن كل مافى مصر أسود، بينما رأس النظام هو النقطة المضيئة بل هو من الأطهار الذين بلا خطايا.
كان فساد الفرعون والهانم قد بدأ يزكم الأنوف، وكانت رائحة استغلال النفوذ من جانب الوريث وأخيه قد فاحت، لكن خطاب النخبة كان يتستر على الجرائم والمخالفات، إما تطوعًا لوجه الحاكم أوخوفا من سحب امتيازات قائمة أو طمعا فى امتيازات مستقبلية.
خطاب النخبة كان يرفع شعار "اضرب ولاقى"، اضرب فى أى أحد مهما كان حجمه ومركزه ولاقى فى الرأس الكبيرة، واطلب تدخله باعتباره الأب والقائد والمنقذ لمصر من كل الحرامية واللصوص الذين نهبوها.
كثير من النخبة كان يتم استدراجهم واستمالتهم لجهة المهادنة والإقلاع عن معارضة النظام برحلة على طائرة الفرعون خلال زياراته الخارجية، وعلى الطائرة كانت تجرى عملية غسيل مخ مغلفة بعبارة "مصلحة البلاد العليا"، فيعودون من الرحلة وقد أصبحوا من أشد المدافعين عن الفرعون، باعتبار أن المساس بـ"الذات الفرعونية" ضد مصلحة مصر العليا.
حتى أن جهاز مباحث أمن الدولة "المنحل"، كان يفتعل أزمات كبرى لحرق مسئولين وتجميل وجه الفرعون، ويضع لها سيناريوهات من الألف للياء، تنتهى بظهور الفرعون وتدخله باعتباره المنقذ لتنفرج الأزمة.
ليس فقط خطاب النخبة هو الذى أصاب الفرعون بجنون العظمة، وجعله يتوهم أن الشعب يحبه إلى درجة الجنون، بل كانت أيضا الحاشية وبطانة السوء تصر على ألا يعيش الفرعون إلا فى عالم خيالى من صنعهم.
فى أى زيارة أوجولة تفقدية منذ أن أصبح الفرعون رئيسا حتى أجبر على التنحى، كان كل شىء أشبه بتمثيلية، فالذين يلتقيهم والذين يطرحون الأسئلة كلهم ممثلون مختارون بعناية يؤدون دورا تم إملاؤه عليهم، كان موكب الفرعون يصيب القاهرة بالشلل المرورى التام ويعطل مصالح الآلاف بل الملايين بالساعات، ومنهم مرضى فى طريقهم للمستشفيات ويحتاجون إلى كل ثانية، وطلاب فى طريقهم لأداء امتحاناتهم، وموظفون مهددون بجزاءات وخصومات من رواتبهم إذا تأخروا عن دوامهم.. وغيرهم من كل فئات وطوائف الشعب المصرى من الذين كنت أسمعهم وهم يصبون جام غضبهم ودعائهم على الفرعون، الذى ارتضى أن يضع راحته فى كفة وعذابهم فى كفة أخرى.
الفرعون بكل أسف كان يعلم أن مرور موكبه من أى شارع فى شوارع مصر، يؤذى عشرات الآلاف من المصريين.. لكنه لم يفكر مرة واحدة فى أن ينزل من برجه العاجى إلى الشارع كمواطن عادى، لأنه ببساطة كان مرتعدا وخائفا ويعلم أن الشعب يكرهه.
الفرعون – بعيدا عن ملف الفساد والسرقة الذى يجرى التحقيق معه هو وأسرته بشأنه – لم يكن يتمتع بأى قدر من الإنسانية التى تزكيه إلى مرتبة حب الناس، فهو لم يكن يومًا من الناس.. لم ينزل إليهم ولم يعش بينهم ووسطهم، ولم يشعر بمعاناتهم وآلامهم وهمومهم، حتى قريته التى ولد فيها لم تطئها قدماه قبل وبعد أن أصبح رئيسا، لم يكن له خير فى أهله مثلما لم يكن له خيراً فى شعبه.
لقد صدق الفرعون خطاب النخبة الممالأة والحاشية الضالة، بأن الشعب يسبح بحمده ليل نهارعلى نعمه الكثيرة التى أنعم بها عليهم، بينما الحقيقة أن كراهية الناس له قد بلغت الحناجر.
لم يدرك الفرعون أن نعمة حب الناس لاتتحقق بالقوة أو بقرار رئاسى، ولا يمكن لشعب أن يحب رئيسا ارتضى أن يقيم أسوارًا تفصله وحواجز تجعله فى عزلة عنهم، رئيسا اختار أن يقيم لنفسه أبراجًا شاهقة من الذهب حتى لايرى أويراه أحد، رئيس لم يمش خلال 30 عاما من حكمه فى الشارع ليسمع بنفسه ومن دون حواجز أووساطة أومحسوبية آلام الناس وأحلامهم.
الرئيس الفرعون اختار ألا يسمع إلا ما يريد أن يسمعه من حاشيته الفاسدة، ولايرى إلا مايريد أن تطلعه عليه بطانة السوء، حتى تكونت غيامة على عينيه حجبت عنه رؤية حقيقة الواقع المرير الذى يعيشه شعبه، وانتهى به الأمر إلى غيبوبة تامة تجسدت فى إطلالته التليفزيونية أثناء ثورة 25 يناير الطاهرة، عندما خاطب الشعب الثائر بتعال وجبروت وتكبر من فوق برجه الشاهق الذى أعماه عن رؤية الواقع.. فتحت تأثير الغيبوبة اعتقد أن ثورة الشعب سوف تطفئها إقالة حكومة لا إقالته هو، ولما أفاق قليلا توهم أن تغيير مادتين فى الدستور يكفى، وفى المرة الثالثة هدد وتوعد "أنا أوالفوضى".
لقد منحتنا الثورة الطاهرة قبلة الشجاعة الأبدية وأطلقت طوفان الحقيقة التى حجبها الفرعون وصمتت النخبة عن البوح بها بكامل إرادتها، وهى أن مبارك لم يكن زعيما ولا أبا ولا محبوبا، وإنما كان ديكتاتورا وطاغية وظالما وفاسدا وسارقا لثروات مصر.
نحن مدانون للثورة بأنها رفعت الحرج عن النخبة ونقلتهم من عالم الممالأة والنفاق والصمت إلى نسمات الحرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة