لا نعرف بالضبط ماذا يمكن أن تسفر عنه الأيام القادمة، فى ظل هذه الحال الغائمة والوضع الغريب الذى يصعب تمييز الطيب من الخبيث.
خلال الأيام الأخيرة أعلن عدد من النشطاء والمتظاهرين التضامن مع الفلسطينيين وتحرير القدس بالمظاهرات وزيادة الدعم المصرى للفلسطينيين، وهو سلوك طبيعى ومهم، فلا أحد من المصريين يعتبر فلسطين بعيدة عنه، لكن التضامن والمساندة يختلفان فى الشكل، ومع الأخذ فى الاعتبار براءة المظاهرات التى تواصلت ضد السفارة الإسرائيلية فى الجيزة للمطالبة بإغلاقها وقطع العلاقات مع إسرائيل، مع العلم أن البعثة الإسرائيلية الدبلوماسية غير موجودة فى مصر منذ ثورة يناير.
ثم إن المظاهرات جاءت لتمثل ضغطا جديدا على القوات المسلحة والشرطة فى وقت لا يزال المصريون يشكون من غياب أمنى وانتشار للبلطجة والخروج على القانون مع اتهامات للشرطة بالتقاعس عن القيام بدورها، وفى نفس الوقت فإن المظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية تضيف إرهاقا وضغطا على القوات المسلحة والأمن وتستهلك من وقتهم وجهدهم، مثلما تفعل ذلك الاعتصامات والمظاهرات أمام ماسبيرو، ومثلما تستهلك ذلك عمليات قطع الطرقات فى القرى والمدن بالأقاليم بسبب أزمات السولار والأسعار ونقص الخدمات، وبعد كل هذه الهجمات والمظاهرات فطبيعى أن الأمن ربما لن يجد الوقت أو الجهد لمواجهة البلطجة وحماية المستشفيات والأقسام وحراسة الطرق السريعة والأرواح والممتلكات.
بعض النشطاء أعلنوا تنظيم مسيرة وصولا إلى الحدود مع فلسطين للتضامن والإعراب عن الغضب، وهذه المظاهرات مع غيرها يفترض أنها موجهة إلى الاحتلال الإسرائيلى، لكنها فى الواقع مواجهة مع الأمن المصرى بجيشه وشرطته، فى وقت تحتاج مصر لترتيب أولوياتها وبناء اقتصادها وسياستها، حتى يمكنها أن تصبح دولة قوية، لكن أحيانا يبدو هؤلاء وهم ينتقلون كأنهم لا يشعرون بأزمات من أى نوع فلا تشغلهم أزمات اقتصادية أو طائفية وهم يتحركون بسياراتهم، ويتحركون بناء على آراء شخصية لا يهمهم ما يجرى حولهم ولا يبدون مشغولين به، وربما يسارعون بتوجيه اتهامات لمن يناقشهم. أو من يطلب منهم دعم جهود مواجهة الطائفية واستعادة الاستقرار الاقتصادى والسياسى.
مصر القوية هى التى يمكنها أن تساند القضية الفلسطينية، أما مصر المفككة الواهنة التى تهدد الطائفية وحدتها، وتشتتها المظاهرات والاحتجاجات، ويعانى اقتصادها من اختلالات واضحة، فلا يمكنها أن تساند أحدا، مصر فى حاجة لأن تساند نفسها، وتستعيد قوتها وأن تصب تلك القوة فى اتجاه واحد وليس فى اتجاهات متعارضة.
وقد رأينا سكان سيناء أو قطاعا منهم يتضررون من إغلاق كوبرى السلام بسبب المظاهرات واعتبروا أن المظاهرات تضر بمصالحهم وتمنعهم من الحركة ومتابعة حياتهم، بل إن إغلاق الكوبرى يضر بمرضى فلسطينيين.
المظاهرات التى تطالب بدعم فلسطين، تتجاهل أن الدعم يحتاج إلى أن تكون مصر قادرة على إدارة شئونها وتسيطر على الأوضاع الداخلية غير المستقرة، وطبيعى أن نفترض حسن النية فى هذه التوجهات، مع الدعوة لأن يتأمل هؤلاء الأوضاع بشكل عام، لأن النظر للقضية جزئيا أو من زاوية ضيقة، يضر بكلا الطرفين، وأظن أن بعض القيادات الفلسطينية، رغم فرحها بهذا التضامن، تتوقع أن تتجه الجهود لتدعيم المصالحة الفلسطينية الوليدة. واستمرار فتح الحدود وتنظيم حملات دولية لفضح سياسات الاحتلال الإسرائيلى. مع الأخذ فى الاعتبار أن حكومة تسيير الأعمال أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتعاملون الآن لسد الثغرات يوما بيوم، وربما لا يجدون الوقت لرسم سياسات طويلة المدى لإنهاء الأزمات وليس علاجها موضعيا.
مصر القوية هى التى يمكنها مساندة فلسطين الحرة، لكن قبل ذلك تحتاج إلى أن تستعيد قوتها فى الداخل، لأن الدول القوية داخليا هى التى يمكنها اتخاذ سياسات قوية إقليميا وخارجيا.