شىء ما يشبه الفيرس، يتوغل فى النفوس فينخرها، يعب من روحها لتتحول إلى كيانات خاوية، تنمو فى الظلام، وتأكل الجيف، وتلعب بالبيضة والحجر؛ ظنًا منها أن هذه هى "النصاحة والمفهومية" تهون عليها نفسها فتصير "هينة" تافهة لا وزن لها ولا قيمة، كالحشرة الجهول تأكل لتأكل، لا الشبع يمسسها ولا القناعة تعرف لها طريقا، تركيبة يتشابك فيها كل ما هو "أبشع" فى النفس الإنسانية، تأخذ بيدها نحو الهوان، وتزل قدمها إلى منحدر لا يعرف أحد مداه، تستصغر كبائر الأفعال المشينة، وتستضئل القيم النبيلة المتسامية، يصاب الواحد منهم بهذا الفيرس الخطير، فلا تهدأ نفسه ولا يرتاح له بال إلا حينما يرى العالم كله فى ذات مستنقعه.
صعب عليهم أن يروا أنفسهم أحرارًا، يستصعبون الشرف، ويستسهلون الرذائل والضعة والخنوع، لا يفهون أن العلاقات البشرية علاقة أنداد بالأساس، فيقلبون صيغة المجتمع تلقائيًا إلى عبدٍ وسيد، هم أسياد تحتهم عبيد، وهم عبيد فوقهم أسياد، تلك هى القاعدة فى كل مجتمعٍ فاسدٍ وكل بلدٍ جهول.
لا يعرف هؤلاء معنى الاستثمار، يبخلون ببعض الجهد وبعض الوقت وبعض الشقاء النبيل، ويستهونون أكل الحقوق ومخالفة الضمائر والتزلف والنفاق، يسلكون درب الفساد السهل بارتياح بالغ "ولا كأنهم بيعملوا حاجة" يبادرون دائمًا فى إفشاء روح المذلة، يحبطون كل عين بريئة، يقتلون كل نفس أبية، جراد ينزل على الأرض فيجعلها يبابًا، يصعد إلى الشجر فتصبح حطبًا، فى أيدهم كل شر، وفى نظراتهم كل خبث، وفى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا.
سذاجة منا تخيلنا أننا تخلصنا من كل شرورنا دفعة واحدة حينما أطحنا بمبارك الذى فى قصر العروبة، لكن الأيام أثبتت أننا فرغنا من الجهاد الأصغر، وبقى لنا الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس، أو جهاد ما بالنفس من فيروسات، والأيام أثبتت أيضًا أن بداخل مجتمعنا آليات لصنع الطغاة مازالت تقاوم الإطاحة والتغيير، فالمتكالبون على المكاسب السريعة اكتفوا بما حققوه من غنائم، وبدأوا فى صناعة آلهة جديدة فى كل مكان، صنعوا أصنامهم وأداروا ماكينة إنتاج الأسياد، ففاقدو بوصلة الإنسانية لا يقدرون أن يعيشوا دونما "سيد" يولون وجوههم شطره ويقدمون له النزور والقرابين.
رومانسيين كنا حينما حلمنا بوطن شريف، يلتف أبناؤه حول مائدته الرحبة المحببة يعملون بجد ويساندون الحق، كنا حالمين طيبين حينما لخصنا شرورنا فى مبارك ومن معه، وتخيلنا أنهم الشيطان فرجمناهم فى ميدان التحرير، لهم نصبنا جلسة زار ليخرجوا من جسد وطننا، لكننا لم ننتبه إلى أن مبارك لم يكن إلا رمزا لشرور مارسناها، وفسادا أكلنا منه وشربنا فأكلنا وشربنا، وأن بداخل كل منا مبارك، فأصبح عندنا "مباركين"، أحدهما بالداخل والآخر بالخارج، وقد تخلصنا من الأصل ولم يبق لنا إلا أن نتخلص من الصورة.