إذا كان أغلبنا قد انتقد ما فعله بعض البلطجية فى ميدان التحرير، وانتقد أن هؤلاء البلطجية قد قبضوا مقدمًا ثمن البلطجة السافرة التى قاموا بها، فإن ثمة بلطجية بيننا يقومون بالبلطجة الفكرية ليل نهار اعتقادا منهم أنهم يخدمون مصر، وأنهم يسعون لإبعادها عن الأخطار المحدقة بها، وهؤلاء بالطبع أخطر بكثير من البلطجية مدفوعى الثمن، لأنهم يخلطون الحابل بالنابل حتى أصبحوا شرا مستطيرا لا بد من مقاومته حتى الموت.
وإذا راقبنا كل ما ما جرى قبل 25 يناير بأسبوعين على الأقل وما بعدها، لرأينا كيف مورست البلطجة بيننا دون خجل أو حياء، وكيف كانت المواقف مختلفة تمامًا ومتناقضة، وأن ثمة عدد كبير تحت دعوى الحرية والليبرالية وحتى الإسلامية، مارسوا كل أنواع التضليل والصمت المريب أمام الظلم والطغيان، ثم فجأة انقلبوا على كل مواقفهم السابقة وأيدوا الثورات الاحتجاجية فى مصر والعالم العربى، وتفننوا فى سرد الحجج العجيبة التى حاولوا من خلالها إخفاء تناقضهم البشع وتقلّب مبادئهم المطاطية المثيرة للضحك.
أنا أتكلم عن الفريقين معًا، بعض الإسلاميين الذين ظهروا من وراء الحجب وكشفوا عن وجوههم الحقيقية، وهذا ما سنناقشه فى مقال مفرد، والليبراليين، الذين يصدّرون مواقفهم عن توجه رافضٍ ومعادٍ لكل ما هو شرعى أو إسلامى، ويمارسون تزييف الوعى، ويناقضون قيم الليبرالية ذاتها وسطحيتها، وهشاشتها.
ولنبدأ بالليبراليين وكيف يشجعون الثورة على كل القديم، وكل ما يمس النظام السابق، ولكنهم لا يخفون خشيتهم من الإسلاميين، ومن وصول الإسلام إلى الحكم، فهم إقصائيون بالدرجة الأولى، ينادون بحق التعبير لهم، والحجر على غيرهم، وحرية الرأى لأتباعهم، ومصادرتها عن مخالفيهم.
وببساطة شديدة ودون حجة قوية، يمكن أن يجيبوك بكلام ساذج ومشوش "إنهم سيصادرون الدولة لحسابهم"، "إنهم إرهابيون".. ألخ ألخ، و«بصراخ الليبراليين» ينتقدون بعض الفتاوى والآراء المختلفة معهم، ويهجمون على الآخرين، حتى ولو كانوا علماءً أزهريين، رغم ضيقهم الشديد هم بالنقد.
ليس ليبراليون لدينا، إنما هم مجموعة من كُتّاب المقالات يسمون أنفسهم ليبراليين، أثبتوا أنه ليس لديهم مشروع فكرى حقيقى، ولا يرتكزون على ثوابت ومنطلقات واضحة، وخطاب محدد، وكتاباتهم غير معرفية ولا معمقة ولا علمية، ثقافاتهم إنترنتية، ومعلوماتهم سريعة ومتعجلة.
لا تجد فرقًا بين ليبراليتهم التى قتلت مليون عراقى واحتلت بلداً عربيًا، وبين الشيوعية التى غزت أفغانستان، وبينهم؟ ولن تجد فرقًا بين الليبراليين الذين امتطوا ظهور الدبابات الأمريكية والشيوعيين الذين جاءوا على ظهور الدبابات السوفييتية؟ أليست كلها ليبرالية؟ واسأل نفسك عن الفرق بين الديكتاتوريين، وبين من صمتوا طوال الفترة الماضية على كل الانتهاكات التى تعرض لها الإسلاميون بالسجون، بحجة أنهم إرهابيون؟!! وما الفرق بين النفاق والظلم، وبين عداء الدين بالكلية بسبب مواقف أشخاص، خطاؤون يحتاجون إلى مراجعة وتقويم؟ وهل تصبح ممارسات الناس حكمًا على مجتمعهم؟ وهل ممارسات المسلمين تصير حكمًا على الإسلام، وممارسات الليبراليين لا تصير حكمًا على الليبرالية؟.
جرب يومًا أن تتناقش مع من يسمى نفسه ليبرالى، وستكتشف الحقيقة بنفسك.. إنه يريد الحرية لكل شىء إلا أنت، ويؤيد كل الأفكار إلا فكرك أنت، ويطلب كل المذاهب إلا مذهبك، طالما أنت تعارضه.
جرب يومًا أن تذكر أمام أحدهم اسم القرضاوى.. صدقنى لن يعجبه، إذن فلتجعله شيخ الأزهر.. سينتقده، ولا تهمس أمامه باسم إخوانى أو سلفى فإنه سيشتمه.
ولو حولت الحوار بينك وبينه حول العمل الحزبى والبرامج ومستقبل مصر، والدولة المدنية والدينية، صدقنى لن يدعك تكمل، وسينقلب على نفسه، وسيبدو واضحًا على قسماته الحقد والغضب والأمنيات بزوال تلك الديمقراطية التى ستأتى بالإسلاميين.
إن بعضًا ممن يسمون أنفسهم ليبراليين متناقضون، ولا يُعرف لهم مشروع واضح، ولا يعرف منهم مَنْ الليبرالى، وهذا هو الفرق بينهم وبين الإسلاميين.
وفتش فى قصاصات الصحف لترى عجبًا، وبوضوح بعد الثورة، لترى من يصرخون بأعلى أصوتهم لإسكات فتاوى الشيخ فلان؛ لأنه لا يعجبهم، رغم أن الفتوى رأى؟ أو من يحذرون من خطورة الإسلاميين لو وصلوا للحكم.
فأين الحرية إذن؟ وأين حرية الرأى؟ إنها فضيحة بالمعنى المفاهيمى، وإن من يسمى نفسه ليبرالى بهذه الشكل، لا لون له ولا طعم ولا رائحة.. بياع كلام.. وعلى شارعين، وليبرالية هؤلاء ساذجة ومشوهة ومتناقضة، توجد حيثما غابت، وتغيب حيثما وجدت.
وأنا أحيانًا أشعر أن المفهوم الليبرالى المشوه رديف الإمبريالية، حين أنظر لحقوق السود والمسلمين؟ وحين أتابع كيف أعلنت فرنسا حربها على النقاب بسبب 2000 منتقبة فى كل فرنسا لم تستطع الليبرالية تحملهن؟ وسواء انتقبت المرأة أم لم تنتقب أليست هذه الحرية التى يدعون لها؟!
وأتساءل، كيف يكون الليبرالى ليبراليا وهو لا يستحى من البلطجة؟ وكيف يكون الإعلامى صادقا فى عرضه وهو يمارس البلطجة جهارًا نهارًا؟ وكيف يكون الصحفى ملتزما بشرف المهنة وهو يمارس الكذب والنفاق؟ وكيف يكون المفكرمفكرًا، وهو يتناقض مع أهم مبادئه؟ وكيف يكون المسلم عارفًا بالله وهو يكره المتدينين؟
وحين أتخيل فى لحظات كثيرة عودة مبارك فجأة للحكم، أتوقع ماذا سيكون من إعلامنا وصحفنا وعلمائنا وأحزابنا وشخصياتنا العامة، وأنتم تعرفون مثلى ماذا سيكون من أفعال وأقوال ومواقف لو حدث ذلك، وكيف سينقلب كل هؤلاء مرة واحدة على رؤوسهم!!
البلطجة يا أصدقائى أنواع متعددة تحدثت عن صنف واحد منها، والبلطجية فى مصر الآن كثيرون، فسحقًا سحقًا لهم فهم أسوأ بكثير من الطغاة.