بعد مضى خمسة شهور على تنحى مبارك، وتداعى نظامه يبدو أن الثورة بدأت تأكل أبناءها. الذين وقفوا فى ميدان التحرير، وميادين الجمهورية الأخرى مطالبين بسقوط النظام تفرقوا، ويخوضون حربا باردة حينا، وساخنة أحيانا ضد بعضهم بعضا. تهم التشكيك والتخوين والتكفير سادت، والخلافات استشرت. شرعية الثورة أم شرعية الاستفتاء، الدستور أم الانتخابات أولا، دولة مدنية أم دولة دينية.. عناوين كبرى تحتل المشهد، ولم يعد لدى الإعلام سوى ثلاثة ملفات أساسية قصص الفساد، ومحاكمات أركان النظام البائد، وخلافات أهل السياسة ومحترفى الحياة العامة. الثورة تحولت إلى شأن نخبوى، أما الجماهير العريضة فهى تعبر عن حنق وغضب، وتفترش الطريق أمام ماسبيرو ومجلس الوزراء وتقطع طريق الصعيد.
ممارسة النقد الذاتى مطلوبة لصالح الثورة حتى تستمر، ولا تتعثر. تمضى فى طريقها بدلا من يأتى من ينقلب عليها. وقديما حذروا الفتوة من «غضبة الحرافيش»، والآن نحذر الثوار من «زحف الجياع». أسوأ شىء نقع فيه حين نقارن الوضع الحالى بالسابق. فنقول الاقتصاد سيئ الآن، وهل كان فى عهد مبارك أفضل؟ الجامعة بلا تعليم وهل كان هناك يوما تعليم بالجامعة؟ الشارع منفلت ومتى كان منضبطا؟ والبلطجية يعيثون فسادا فيأتى من يقول علاجهم عند وزارة الداخلية؟. وإذا احتار دليلنا فى تفسير تردى الواقع نقول إن كل الثورات تشهد أوضاعا شبيهة، وربما أسوأ، وما يجرى فى المجتمع المصرى الآن أقل- كما وكيفا- مما شهدته دول أخرى. والشماعة التى نعلق عليها كل الأخطاء هى «الثورة المضادة» و«فلول النظام السابق» و«بقايا الحزب الوطنى» الخ.
إذا استمر الحال على ما هو عليه، واستمرأت النخبة هذه الحالة فإن القادم قد يكون أسوأ بكثير، وقد نشهد بالفعل من ينقلب على الثورة من قلب المجتمع، أبناء العشوائيات الذين خلقت قصص الفساد المتلاحقة شعورا لديهم بالغضب، وهم لا يستطيعون الحصول على مسكن لائق، أو مرافق عادية، أو وظيفة تشعرهم بأهميتهم. ليس كل من ينتقد الأوضاع الراهنة من فلول النظام أو من الداعين إلى تصفية الثورة، ولا يصح أن نصفهم بهذا تلميحا أو تصريحا، ونغلق عقولنا أمام تطورات سلبية يشهدها المجتمع، ونكتفى بالنقد. فى السابق كنا ننتقد نظام مبارك وجهازه الأمنى وحزبه الفاسد، اليوم ننتقد المجلس العسكرى، وحكومة عصام شرف، ومبادرات يحيى الجمل، وتحركات الإسلاميين. وكأن الحال لم يتغير، والمشهد لم يختلف عما كان عليه فى السابق.
المشكلة التى ينبغى أن نواجهها بصراحة هى أن الثورة أتت بحكومة غير ثورية. تدير الملفات بالطريق القديمة، بطيئة فى استجابتها للأحداث، لا تمتلك رؤية تطرحها على النقاش العام. ليست حكومة تسيير أعمال، وليست حكومة إنقاذ وطنى مثلما جرى وصفها لاحقا، بل هى حكومة «يوم بيوم»، تتعامل مع مجتمع غير قابل للتوقع، ولا تملك زمام المبادرة فيه.
أخطر ما يواجه المرحلة الانتقالية التى نعيشها هو غياب الرؤية. المجهول يطبق على أنفاس الناس، والكل على لسانه سؤال واحد «البلد رايحه فين؟». أين مشروعات النهوض بالتعليم والصحة والاقتصاد والفقراء والمهمشين؟ أين الرؤى التى ترسم ملامح المستقبل، وتخلق مشروعا قوميا فى نفوس المصريين تبعد عنهم شبح الإحباط واليأس الذى يعتصرهم؟ أين النخبة السياسية التى انصرفت فى مساجلات الدولة الدينية والمدنية ونسيت أن عقد الدولة المصرية ينفرط تدريجيا، وأخشى أن نبحث عن الدولة فلا نجدها؟
القوى الثورية أجمعت على إسقاط النظام، دون أن تمتلك رؤية لنظام جديد، وهو ما يجعلنا نسير فى نفق مظلم. يخشى الثوار فيه من بعضهم بعضا، ويعيشون كابوس انفراد فصيل بالسلطة دون غيره، وهم يرون الاستقطاب يزداد يوما بعد يوم. أين أهل الرؤية والبصيرة؟ يحتاج مستقبل مصر إلى رؤى حقيقية جادة فى كل المجالات، تشد انتباه المجتمع، وتخضع لنقاش مكثف من جانب كل أبنائه. ولكن يبدو أن النخبة أسيرة خلافاتها القديمة، لم تغير من نفسها. مصر تغيرت، ولكن نحن لم نتغير.
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
البلد رايحه فين؟
عدد الردود 0
بواسطة:
خالد الشيخ
التركة ثقيلة بثقل أحجار وأهرامات الجيزة