د. بليغ حمدى

فاسدون ومفسدون

الخميس، 16 يونيو 2011 10:08 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قديماً كنا نقرأ عن بعض حالات الفساد المالى والإدارى، ونحن فى استغراب وتعجب من وقوع مثل هذه الحالات والمواقف التى ترصد وتكشف عن الفاسدين والمفسدين، لذلك لمن يتذكر هذه المناسبات التاريخية فى الكشف عن الفساد، كنا نتحدث عنها لمدة قد تزيد عن الأشهر الثلاثة، نتناول أطرافها على مأدبة الطعام، ووسط عربات المترو، وعند أكشاك السجائر، التى أصبحت اليوم وبعد ثورة يناير مثل المحمول فى يد الجميع، فأنا بمناسبة هذه الظاهرة، أخشى أن أستيقظ مرة من نومى صباحاً فأجد أحدا منها أمام غرفة نومى.

المهم فى مقدمتى هذه عن الفساد أننى اليوم أقرأ وأستمع وأشاهد عبر الفضائيات الفراغية مئات القصص التى تروى عن الفساد والفاسدين، وأخيراً عن المفسدين، وصار شارع القصر العينى ينتظر عشرات الوقفات الاحتجاجية أمام رئاسة مجلس الوزراء، تندد بمظهر من مظاهر الفساد المالى والإدارى والمهنى أيضاً، وهذه كارثة مفجعة فى حد ذاتها، لأن الأمر تعدى خيانة المال العام أو القواعد المنظمة للعمل واستحال الأمر إلى خيانة الله تبارك وتعالى، لأن بعضاً من الناس، وأعنى منهم الفاسدين والمفسدين، راح يتخلى عن قضية النهوض بأمته عن طريق عمله ومهنته، فبدا الخراب والفساد يتسلل إلى نخاع الوطن يقوضه شيئاً فشيئاً.

ولعل ما يحدث الآونة الراهنة فى وطننا الغالى مصر من وقفات احتجاجية وشعبية وتظاهرات سلمية، وأحيانا تخرج عن نطاقها السلمى إلى تظاهرات غير سلمية ضد الأنظمة الإدارية والمنظمات والهيئات الحكومية والسياسية يشكل دافعاً قوياً لاستقراء ظاهرة بدت طبيعية، وهى مواجهة الفساد الإدارى والسياسى، وربما ثورة الشعوب على حكامها هى التى دعت الكتاب والمحللين السياسيين يرجعون إلى دفاترهم القديمة للبحث عن جذور الفساد الإدارى والسياسى، وبزغ من جديد هذا المصطلح الذى أصبح الأكثر شيوعاً فى الاستخدام اليومى التداولى.

ومصطلح الفساد الإدارى السياسى كما تؤكد أدبيات التحليل والتأويل السياسى يرمى إلى إساءة استخدام السلطة العامة والنظام الحاكم لإدارة أو مؤسسة أو دولة لأهداف غير مشروعة، تتراوح بين السر والعلانية من أجل تحقيق مكاسب شخصية محضة، وارتبط الفساد الإدارى السياسى بسلطة القائد أو الحاكم أو المسئول الإدارى، بمعنى آخر نمو السلطة السرطانى الذى يتغلغل فى جسد السياق المجتمعى بصورة سافرة.

وهناك قاعدة عامة مفادها أن أى نظام سياسى مطلق هو معرض فى الأساس إلى الممارسات السياسية الفاسدة، وهذه الممارسات تتنوع أشكالها وصورها بين الرشوة والعمولات السرية، وانتشار المحسوبية أو ما يطلق عليها الواسطة، واستغلال النفوذ للحصول على مقدرات عامة تخص ملكية الدولة العامة، مروراً بعمليات غسل الأموال، والاتجار بالمخدرات، انتهاء بتجارة الجسد واستغلاله بصورة مقيتة عفنة.

ويعد الفساد الإدارى السياسى عدواً للإصلاح الدستورى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى، ليس هذا من قبيل تهويل الأمور، بل إن أصغر مؤسسة إدارية على أرض مصر هى ممثل حقيقى للكيان الإدارى والسياسى فيها، قياساً على أن الابن مرآة أبيه، والبنت مرآة أمها وهكذا، وهذا الفساد مظهر من مظاهر تشخصن السلطة وتعاظم دور الحاكم والحاشية المحيطة به من موظفين وإداريين يسعون جد جهدهم إلى ضياع حاضر هذه الأمة، الأخطر أن بعضاً منهم يسعى ويطمح أيضاً إلى تشويه ماضيها، وتعتيم مستقبلها،
إذ يحاول بعضهم تعطيل المسار الدستورى الديمقراطى، والخطط التنموية للوطن بحجج واهية رمادية، مستندين فى ذلك على أن بعض المطالب الشعبية والفئوية من شأنها تكدير المجتمع وإهدار طاقاته واستنزاف مصادره، وإشاعة الفوضى فيه، كما أنه يتعمد وضع الثروات القومية التى هى ملك للوطن وأبنائه فى كلتا يديه متحكماً فيها بصورة سرية، خاصة فى بعض الدول المتنامية.

وهذا التعطيل للإصلاح الاجتماعى والاقتصادى، الذى يفرضه الفساد السياسى ورموزه، يتسبب فى حدوث كوارث اقتصادية واجتماعية مثلما حدث فى مصر على سبيل المثال، من تضخم لرؤوس الأموال، وعجز فى الميزانية العامة للدولة، وانهيار الطبقة المتوسطة بأكملها، علاوة على ذلك الضرائب التى كانت فى الماضى القريب جدا تثقل كاهل المواطن الذى لم يعد عادياً أو بسيطاً فى التفكير والتدبير.

وأقسم دون مجاملة أو رياء بأننى مع المستشار المحترم عبد المجيد محمود، النائب العام، قلباً وقالباً، وأتعاطف معه لما ينتظره كل صباح ومساء من دعوى فساد إدارى وسياسى واستغلال للنفوذ والسلطة، وأحمد لله أننى لست فى موقعه، رغم رفعته ومكانته المرموقة والشريفة؛ لأننى باختصار لو استيقظت كل صباح على مشكلة أو ظاهرة فساد أو استغلال للنفوذ عن طريق الرشوة وغيرها من وسائل قمع المواطن الحديثة لسئمت العيش فى هذا الوطن ولغادرته فوراً دونما رجعة، فكان الله فى عونه وأيده بالصبر والتثبت.

ولابد من الربط المنطقى بين الفساد الإدارى والسياسى كآلية مرتبطة بالنظام الحاكم ومؤسساته، وبين الحاكم نفسه؛ إذ يسعى الحاكم المستبد وأعوانه المستفيدون من نظامه إلى تهميش دور الأجهزة الرقابية فى نفس الوقت الذى يسعون فيه إلى تعظيم الدور الأمنى المهموم بقمع المواطن، بل إن الحاكم نفسه فى ظل النظم السياسية الفاسدة التى يفرضها على شعبه يمارس عمله الدستورى بعقلية أمنية تستهدف الحفاظ على بقائه فى السلطة أطول فترة ممكنة.

ففى مصر خلال العشرين عاماً الأخيرة مثلاً حدث تزاوج غير شرعى بين النظام السياسى والنظام الأمنى متمثلاً فى أجهزة أمنية مثل جهاز مباحث أمن الدولة وقطاع الأمن المركزى الذين اتهما بقتل المتظاهرين سلمياً فى بداية اشتعال ثورة الشعب، وكلنا يعلم القاعدة المستدامة بأن الثروة تحتاج إلى قوة تحميها وتحافظ عليها بصورة طبيعية، لكن ما حدث فى مصر وتونس وليبيا على سبيل الاستشهاد لم يحدث هذا التزاوج بصورة شرعية، بل بصورة مرضية طبيعية، بل كان الغالب عليه عزل الفرد عن واقع مجتمعه وتغييبه عن ثرواته المكتسبة، بحيث لا يستطيع أن يطالب بحقه أو يحلم بحياة تتوافق مع هذه الثروات.

ولكى يتمكن الحاكم فى ظل الأنظمة السياسية الفاسدة من فرض سطوته وقمع المعارضين له والمطالبين بالإصلاح الدستورى يسعى إلى استخدام آليات سياسية محددة ومعروفة، مثل الخطب السياسية الأكاديمية التى يلجأ إليها الحاكم مستميلاً أفراد شعبه بطريقة تمثيلية فى الوقت الذى يضرب نظامه الأمنى المواطنين بيد من حديد وبقبضة قوية سافرة.

ولكى يحسن النظام السياسى الفاسد صورته، يلجأ إلى حيل سياسية ذات صبغة اجتماعية، مثل حضور الاحتفالات والمناسبات الشعبية والتى يتم الإعداد لها بطريقة تضمن تأمين الحاكم ورموز نظامه السياسى أمنياً، المهم هو تحسين صورته وتجميلها أمام الرأى العام، مثل الاحتفال بفوز الفرق الرياضية أو تكريم كاتب أو الظهور فى احتفالات تاريخية كذكرى انتصار عسكرى.

ورغم عمليات التجميل التى يسعى النظام السياسى الفاسد إلى إجرائها، إلا أنه يأبى الإصغاء لحقوق الشعب المشروعة، كالحرية وتحقيق العدالة وتوفير أمن المواطن، والحياة الكريمة، وتوفير فرص العمل، والمشاركة غير التمييزية فى الحياة السياسية، والتعبير عن الرأى عبر الوسائط الإعلامية الممكنة والمتاحة، وتوفير المسكن المناسب لأصحاب الدخول البسيطة، بالإضافة إلى دعم المستشفيات ومراكز العلاج والدواء لمحدودى الدخل.

وأخيراً ونحن ما زلنا بصدد حالة وهالة ثورة يناير الشعبية التاريخية، علينا أن نحدد لأنفسنا بعض الأولويات والنواتج القومية التى نسعى إلى تحقيقها، فإذا كانت الثورة تستهدف إقصاء النظام الحاكم بسطوته وقمعه ونفوذه المتغلغل كالسرطان بالجسد المحيل، فعلينا أن نبدأ بالإعمار بعيداً عن الحوارات الوطنية والاحتفاءات والسرادقات التى تتحدث عن ماضى الكفاح والتنديد بسلبيات الماضى، وعلينا ألا نوجه جل اهتمامنا إلى الانتخابات التشريعية القادمة، لأننا قمنا جميعاً بثورة بيضاء شريفة دون زعيم أو قائد لها، فلا نربط بين مستقبلنا المشرق وبين ممثلنا فى البرلمان، وألا نربطه بين مطرقة الدولة الدينية وسندان الفتنة الطائفية والدولة المدنية، علينا إذا كشفنا مظهراً من مظاهر الفساد أن نبدأ بعلاجه سواء بالقضاء عليه أو بتحسين الواقع مباشرة أو بالتطوير السريع. أنا أحب بلادى، فهل تحبها أنت أيضا؟.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة