تصوير الخلاف على الدستور والانتخابات البرلمانية على أنه خلاف بين من يريد أن يحترم إرادة الناخبين وبين من يريد الالتفاف عليها، فى الحقيقية تصوير خطأ تمامًا، بل وخادع، لماذا؟ ببساطة لأنه يفسر التعديلات الدستورية بطريقة تخالف كل أعراف التفسير القانونى والفقه الدستورى، وأنا هنا أريد أن أساير الذين يطالبون باحترام إرادة الناخبين لنكشف فى النهاية أنهم هم الذين يريدون الالتفاف على إرادة الأمة.
الثورة حققت أول وأهم أهدافها بأن أسقطت الرئيس، ولم يتخلَّ أو يتنحَّ، وإنما أجبر على ذلك، وتولت القوات المسلحة إدارة البلاد بأن أعلنت عن تعطيل العمل بالدستور، ثم حلت المجلسين، وأعلنت تولى السلطتين: التشريعية والتنفيذية، بموجب الشرعية الثورية، فلا يوجد فى الدستور أى صلاحيات يمكن منحها للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذى يقول إن الرئيس قد فوض صلاحياته للمجلس الأعلى للقوات المسلحة قوله غير دقيق، ذلك أن الرئيس تخلى أولاً فأصبح الرئيس المخلوع، وليس لديه صلاحيات ليفوض فيها أحدًا، إذًا السؤال هو: ما شرعية المجلس الأعلى للقوات المسلحة؟ ببساطة هى شرعية مستمدة من انحياز قيادتها للثورة ذاتها، وإرادة الجماهير.
واستمرارًا لخطة الرئيس المخلوع تم تشكيل لجنة لتعديل دستور 71 «التى كانت وللأسف من لون سياسى واحد» نقول: الدستور هذا مات، انتهى بقيام الثورة، والميت لا يعود للحياة، أصروا على إجراء الاستفتاء وتحت ابتزاز أن من هو ضد التعديلات هو ضد الديمقراطية أو من الخائفين من الديمقراطية، وانقسم الرأى العام والقوى السياسية، فمن قال «لا» كان مع دستور جديد، ومن قال «نعم» مع تعديل الدستور الميت، وجرى الاستفتاء على المواد بذات الأرقام الموجودة فى الدستور القديم، وهذا معناه أن إجازة هذه المواد ستعود للدستور، وسيتم الاستفتاء من جديد عليها، وهذا لم يحدث، والواقع هنا إما أننا نعمل بدستور 71 فتسلم السلطة إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا لإجراء انتخابات الرئيس، ثم الانتخابات التشريعية، وكأن الثورة لم تكن، ومن يرد إعمال الاستفتاء عليه أولاً أن يطلب إجراء انتخابات رئيس الجمهورية، لماذا؟لأن المادة 189 نصت على أن الذى يجرى دعوة المجلسين للانعقاد لانتخابات الجمعية التأسيسية هو رئيس الجمهورية، نص صريح لا يحتمل التأويل، هذا معناه أن الانتخابات المطلوب إجراؤها هى انتخابات رئيس الجمهورية، وليست انتخابات المجالس التشريعية.
واستمرارًا للتخبط فى التعديلات فالذى ينظر فى صحة العضوية لأعضاء مجلس الشعب هو المحكمة الدستورية العليا وليست محكمة النقض كما جاء فى التعديل المستفتى عليه، إذًا الحقيقة أنها ليست إرادة الناخبين التى نذرف الدمع عليها، وإنما هى المصالح الذاتية الآنية التى يمكن أن تضحى بمستقبل الوطن وحقوق كل الثوار والمصريين من أجل تصورات موهومة بالقدرة على السيطرة انفرادًا بكل مقاليد الأمور، بدءًا من الحصول على الأغلبية فى البرلمان، واحتكار عملية تشكيل الجمعية التأسيسية، ووضع الدستور الجديد بالكامل، والإطاحة بكل آمال وطموحات المصريين فى دولة ديمقراطية تحترم مواطنيها بصرف النظر عن اختلافهم السياسى أو الدينى.
إذًا اتفقنا على أننا مازلنا فى الشرعية الثورية، فإننا يجب وقبل أى شىء أن نقوم بوضع أسس الدولة ونظامها السياسى، فأهداف الثورة لم تكن فقط إسقاط النظام، وإنما كانت أيضًا بناء نظام جديد، لدولة تتحقق فيها أهداف الثورة فى الحرية والكرامة والعدالة، وليس أن تنسلخ إحدى القوى من الحركة الوطنية وتولى أهدافها الذاتية أولوية على أهداف الثورة.
فلنتفق على أن أهداف الثورة أولاً، وأن الحقيقة التى يجب أن ندركها جميعًا هى أن الإعلان الدستورى الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة بموجب الشرعية الثورية قد أنهى دستور 71 وتعديلاته إلى الأبد، وأن المجلس يستطيع أن يعدل هذا الإعلان ليتفق مع أهداف الثورة فى بناء الدولة الديمقراطية، وأن يمهد إلى إجراء انتخابات ديمقراطية تنافسية تقف فيها كل القوى على قدم المساواة.