أظن أنهم قلة، الذين اهتموا بفعاليات الحوار الوطنى أو القومى أو..
وأظن أن الكثيرين قد لاحظوا أن الفكرة قد انتشرت بسرعة كبيرة، حتى صار فى كل مكان مؤتمر أو حلقة أو ندوة للحوار، مثلاً هذه الندوة التى أحدثكم عنها.
أولاً لابد أن أشير إلى الذكاء فى اختيار المتحاورين، قد ترى أنه ذكاء مصطنع، وحتى لو رأيت هذا فهو ذكاء على أى حال، فلقد اختاروا ثلاثة ممن اشتهروا بعد ثورة 25 يناير، وبالطبع نجوم الثورة ليسوا مثل نجوم العهود البائدة.
الأول هو أحد رجال التيار الدينى، معظمنا - وأنا منهم- لم نكن نعرف شيئاً عنه، ولكن الحمد للفضائيات. والثانى ممن نسميهم الليبراليين، عرف النجومية حتى فى العصر البائد، وكان مرشحاً للجنة السياسات، ولحسن الحظ تجاهلوه. والثالث يسارى مارس العمل السياسى لأول مرة فى جنازة الرئيس عبدالناصر وسُجن واضطهد لكنه لم يكل أو يمل، ورغم أنه سياسى بالدرجة الأولى إلا أنه رومانسى يعيش فى الماضى.
أرأيت إلى أى حد كان الاختيار ذكياً؟! ومما أكد هذا أن القاعة امتلأت بالحضور، وبالطبع تستطيع أن تستنتج دون جهد أن لكل من المتحدثين أنصاره فى القاعة، ولو كنت متشائماً مثلى لقلت إن أحد المتحدثين الثلاثة لن يستطيع تغيير رأى أصغر شخص فى القاعة ولو بدرجة واحدة.
وبدأ ممثل التيار الدينى وهمهم البعض متسائلين: لماذا كان هو الذى يبدأ وولد اتهام يقول إن أصحاب الندوة منحازون، وفسر أحدهم هذا الترتيب - همسا بالطبع - بأنه حسب التطور التاريخى، فالدين يبدأ أولاً ثم الليبرالية وأخيراً اليسار. وهذا ما دفع يساريا مخضرماً إلى الانفعال وتحدث عن اليسار قبل ثورة 1919 بل من أيام محمد على، ولكن الهمس الغاضب انتهى تقريباً عندما قال أحدهم إن صاحبنا طلب أن يتحدث أولاً لارتباطه بموعد مع فضائية، وأنه ليس هناك أولويات ولا انحياز ولا يحزنون.
تحدث صاحبنا- أقصد ممثل التيار الدينى- وليس ما قاله هو موضوعنا الآن، ما لفت نظرى وأظن أنه لفت نظر الجميع رنات الموبايل المختلفة.. واحدة أذان وواحدة دعاء وواحدة آية قرآنية، وكلما انطلقت رنة قطع كلامه وانحنى على الموبايل هامساً محاولاً - والحق يقال - الاختصار بقدر الإمكان، ولقد رأيت فى كثرة الاتصالات شعبية صاخبة، ولكن جارى كان شديد الضيق: إنه رجل دين وكنا نتوقع منه شيئاً من الاحترام والالتزام، وبالمناسبة ،ولو أن هذا ليس مكانه، انتشرت فى السنوات الأخيرة كلمة «ملتزم» بما يعنى أن الموصوف بها متدين، والذين حضروا الخمسينيات والستينيات مثلى - إذا لم تكن الذاكرة قد مسحت - يذكرون أن كلمة الالتزام كانت تعنى أن صاحبها شيوعى مخلص، فسبحان مغير الأحوال، ومبدل معانى الكلمات، وجامع هؤلاء وأولئك فى مصطلح واحد.
بعد حديث صاحبنا ذى الثلاثة موبايلات بدأ حديث الليبرالى الذى لفت الأنظار بالبدلة الحريرية الفاخرة ورابطة العنق التى أذهلت جارى.
وبالطبع تذكر المتحدث الأول أنه وعد بعض من اتصلوا به أثناء حديثه بعد أن ينتهى، ووعد الحر دين عليه، فاتصل بهم وحاول بعض الخبثاء أن يتسمعوا ما يقوله، ومثلهم تمنى أن يعرف ما انهمك اليسارى فى كتابته، وبالطبع كان الليبرالى منهمكاً فى الهجوم على بعض الشخصيات العامة طالباً محاكمتهم والحكم عليهم بالإعدام وعصر دمائهم فى أكواب توزع فى احتفال وطنى كبير.
ومال شاب على أحدهم متسائلاً: أليس الأستاذ الذى يتكلم من الليبراليين؟ طبعاً، أجابه بالإيجاب، فتساءل: وهل الليبرالية تعنى الاستبداد؟ رد عليه جاره: هذه هى الطبعة المحلية.
ولم يكن المتحدث الأول قد انتهى من المكالمات المهموسة عندما بدأ المتحدث الثالث يتكلم.. وما إن نظر إلى القاعة الفارغة بعد هروب الحاضرين حتى أصابه الإحباط، ونظر إلى صفحته التى كتب فيها ملاحظاته وسكت!
فى عام 1945 خرجت ألمانيا من الحرب وليس فيها طوبة على طوبة، تكلموا بطريقتنا فلم يصلوا إلى شىء، أصدروا قرارات بمنع التكلم فى أى اجتماع، ووزعوا أوراقاً على كل شخص يكتب ما يريد، والآخرون يردون عليه كتابة، وبدأت ألمانيا العظمى، بنت نفسها مرة أخرى لا مؤاخذة بدون حوار.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ابو العربى
محفوظ عبدالرحمن