قصر يطل على النيل بمدينة المنيا، صورة لجمال عبدالناصر فى المدخل، فى أحد أروقة القصر الخلفية، لوحة لامرأة حادة الملامح، جميلة العينين، عرفت فيما بعد أنها السيدة هدى شعراوى صاحبة القصر قبل أن تستولى عليه ثورة يوليو، وتحوله إلى مقر منظمة الشباب الاشتراكى بالمنيا، حديقة القصر صارت ملعبا لطفولتنا، فيما يسمى نادى الطلائع، الصف الأول الثانوى انتقلت من الطلائع إلى منظمة الشباب، من ملعب كرة القدم إلى ملعب السياسة.
أغلب أبناء جيلى بالمدينة تخرج فى منظمة الشباب، صباح 9 يونيو 1967 كنا نعانى من حالة ذهول، لم نعد نصدق الهزيمة، كنا ننتظر القضاء على إسرائيل ببيانات أحمد سعيد بصوت العرب التى كانت تؤكد سقوط الأسطورة الإسرائيلية، يعقبها أغنية للراحل محمد رشدى: «أبو خالد يا حبيب.. الخطوة الجاية فى تل أبيب»، كان قادة المنظمة قابعين منذ الخامس من يونيو فى منازلهم أو خلف مكاتبهم، كانت دماء مشاعرنا تسيل كعذراء فضت بكارتها من مغتصب، كان الألم يتهادى فى قلوبنا على وقع دموعنا، تتسرب أحلامنا كالماء بين أصابعنا، لم يكن أمامنا سوى الذهاب إلى المنظمة لسماع خطاب الرئيس، ربما يكون لديه تفسير للفجيعة ودواء لجرح لم يلتئم بعد، تجمعنا مثل صغار خائفين من ظلمة الهزيمة، يلتفون حول المذياع منتظرين صوت الأب القادم من أعماق الجرح.. لعله يهدئ من روعنا، لم يعد فينا من الحواس سوى الآذان المنتظرة، يأتينا صوت الأب المكلوم ليعلن عن تنحيه، لم يعد أمامنا سوى صرخة واحدة من عمق الحشا «لا»، ركضنا جميعا كمن لدغهم ثعبان، مهرولين نحو شارع الحسينى الشارع الرئيسى بالمدينة، لم نكن بمفردنا بل خرج أهل المنيا جميعا عن بكرة أبيهم، يرفضزن التنحى والهزيمة، ويعاهدون جمال على الاستمرار تحت رايته، توجهت الجموع نحو المحطة راغبين فى السفر إلى القاهرة، والاعتصام أمام منزله بمنشية البكرى حتى يتراجع عن قراره.
تذكرت أن بطاقتى الشخصية فى المنظمة، فذهبت إلى هناك، فوجئت بأن قادة المنظمة وقادة الاتحاد الاشتراكى مستمرون فى اجتماعهم الذى انعقد منذ الصباح، عرفت أنهم كانوا ينتظرون أوامر لم تأت لتجيبهم عن سؤالهم.. ماذا يفعلون؟ «ربما يكون ذلك أبلغ رد على من يعتقدون أن انتفاضة 9، 10 يونيو كانت مدبرة من قادة الاتحاد الاشتراكى.
تفتح وعيى البكر فى هذا اليوم وما تلاه من مشاركتى فى مظاهرات 1968 ضد الأحكام التى صدرت على قادة سلاح الطيران، وكنا نعتقد أنها مخففة، ثم فى انتفاضة 1972 الشبابية الطلابية بميدان التحرير والتى دفعت السادات للعبور العظيم، وعرفت مرارة السجن، ولكنها لم تكن أشد مرارة من الهزيمة، والسجن الداخلى الذى مازال يعيش فينا حتى بعد أن عبر جيشنا الباسل وحقق النصر 1973، أدركت فى انتفاضة الخبز 1977 خوف الحكام من الشعوب، ولماذا هرع السادات بعدها إلى القدس لإجراء الصلح مع إسرائيل.
كل ذلك جال بخاطرى وأنا أستمع إلى حمدين صباحى المرشح لرئاسة الجمهورية، وتذكرت حينما كان رئيسا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة، تذكرت قادة كثيرين ولدوا من رحم 9، 10 يونيو 1967، وكيف استمروا رغم الانكسار وصولا إلى 25 يناير 2011 «أحمد عبدالله رزه، عبدالله السناوى، أحمد الجمال، نبيل مرقص، أمين إسكندر، عبدالحليم قنديل، أحمد بهاء الدين شعبان، نور الهدى زكى، جمال فهمى، كمال خليل، كريمة كمال، أمير سالم، عادل السنهورى، وآخرون وأخريات» عشرات الأسماء ولدوا من رحم الهزيمة فى 5 يونيو 1967 وتفجر وعيهم السياسى فى 9، 10 يونيو ومازالوا على الطريق، تحية لجيلى جيل السبعينيات جيل الانكسارات العظيمة والانتصارات غير المكتملة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عمرو الشافعي
تحية واجبة