انتهت الثورةُ على النظام. وهى بمثابة مجرد فتح غطاء القارورة لتنفجر منها عشراتُ الثورات التى نحتاج إليها لكى نبنى مجتمعنا على أسس سليمة، تنقذ بلدنا مصر الجميلة، لنضعها فى الصف الذى يليق بها بين مصاف الدول الراقية المتحضرة. نحتاج إلى ثورة تزرعُ فينا حقيقةً بداهية تقول إن لكل إنسان فوق الأرض حقَّ اختيار حياته، على النحو الذى لا يمسُّ حقوق الآخرين. ثم ثورة أن يتمسك الإنسان بهذا الحق، وثورة أن يُحترم الآخرُ، كلُّ الآخرِ، وأىُّ آخرَ، هذا الحق، لأن فيه ضمانةً أكيدة لحقّه هو أيضًا فى حرية الاختيار، وحقه فى احترام الآخر. ذاك أن كلاّ منّا هو «آخر» بالنسبة لسواه. لو قمنا بهذه الثورة ما قتل رجلٌ مسيحىٌّ بغيض شقيقته وطفلها لأنها اختارتِ الإسلامَ دينًا لها، وما ألقى رجلٌ مسلمٌ بغيضٌ ماء النار على امرأة مسيحية تحمل طفلَها لأنها لا تضعُ الحجاب! وما اعتبر أحدُ المشايخ «بين قوسين»، أن خروج الناس فى تظاهرة رافضة للأوضاع الخاطئة كفرٌ وخروجٌ عن إرادة الله، وأن مَن لن ينتخب فلانًا مرتدّ عن الملّة. لو قمنا بهذه الثورة لدافع المسلمون مجتمعين عن حقوق أقباط مصر المسيحيين. أولاً لأنها قضية وطن وليست قضية طائفة، وثانيًا بالنظر إلى أن عهودًا طويلة من القمع أجبرت المسيحيين على التشرنق فى الكنيسة، كأنما خارجها موتٌ وهلاك. علينا الآن، نحن المسلمين، أن نأخذ بأيدى أشقائنا الأقباط لنُخرجهم من كنائسهم، لكى نتشارك جميعًا فى رسم مستقبل مصر. علينا أن نقنعهم، بالفعل لا بالقول، أن مصرَ وطننا جميعًا، الذى علينا إنقاذه من عثرته. علينا السعى بكل ما نملك من رقىّ وجمال وتحضّر لنسترد لهم حقوقهم السليبة، تلك التى أهدرَها الحكّامُ السابقون لأجل التأبد فى السلطة، على مبدأ «فرّق تسُد»، لكى يشتتوا انتباهنا، نحن الشعب، فى مهاترات طائفية ركيكة تشغلنا عما يرتكبون، الحكّام، من مفاسدَ وسرقاتٍ وغلاءٍ وبطالة وتصدير موارد للعدو وإهدار حقوق وكرامات، إلى آخر ما نسينا أن ننتبه له على مدى عقود مضت، انشغلنا خلالها بتفتيت بعضنا البعض، بدل الاتحاد والتصدى للعدو الواحد المشترك: الحاكم الظالم. لو قمنا بهذه الثورة المنطقية التى تحتل المرتبة الأولى على سُلَّم الأولويات، ما كفَّرَ أحدٌ أحدًا، لأنه لا يعتقد فيما يعتقد هو. سواء كان هذا «الاعتقاد» عقيدةً أو رأيًا أو نظريةً أو مبدأً أو أسلوبَ حياة. وما كفّر الشيوخُ أنفسُهم بعضهم البعض، لأن لأحدهم تأويلاً مغايرًا لتأويل صاحبه! عندى أن أولى الثورات التى نحتاج إليها الآن هى ثورة الوعى. الشعبُ يحتاج إلى إعادة هيكلة الوعى. الوعى بالأخلاق وبالحق والعدل والمساواة، الوعى بالجمال والرُّقى والنظافة، والوعى بمكانة مصر التى ينبغى أن تكون عليها بين دول العالم. الوعى بحتمية العمل وجديته. الوعى بحتمية قراءة التاريخ، الصحيح وليس ما حشروه فى رؤوسنا زورًا وتدليسًا، قراءةً ذكية واعية، ثم إعادة فرزه وتحليله، الصالح منه والطالح، لكى نتعلم منه كيف نصنع حاضرنا ومستقبلنا. نحتاج إلى ثورة قيم. القيمُ التى علّمنا إياها شبابُ التحرير فى يناير. قيم التهذّب فى القول والفعل. قيم تنقية الروح من الدنس والأحقاد وتنقية اللسان من الغثّ والركاكة، والقلب من الفظاظة والعنف. نحتاج أن نتعلّم الرحمةَ كما علمنا إياها اللهُ فى كتبه. كيف نبتهل إلى الله أن يرحمنا، بينما نقسو على بعضنا البعض؟! نحتاج إلى ثورة الانتماء. كان شبابنا قبل الثورة يدبجون النكات التى تُهين مصريتنا، ويتناقلون رسائلَ ساخرةً تنقضُ مقولة مصطفى كامل، فيحورونها: «لو لم أكن مصريّا، ما وددتُ أن أكون مصريّا!» وبعد الثورة ارتفعت شعاراتٌ لم نكن نراها قبلها: «مصرىٌّ وأفتخر!» هل يحتاجُ المصرىُّ إلى ثورة ليفخر بانتمائه لأعرق بلاد الأرض؟! كتبتُ كثيرًا قبل أعوام عن «مصر الكثيرة»، ناديتُ خلالها شباب بلادى الغاضبين من مصر أن يفرّقوا ويدققوا فيما يثير غضبهم. لأن هناك ثلاث أمصار، لا واحدة: مصرُ الوطن، تلك الجميلة التى نعشقها جميعًا ولا تُغضب أحدًا، ومصرُ الحكومة، وهى عابرةٌ زائلة مهما تأبدت فوق كراسيها، وهى وحدها ما نختصم ونُغاضب، ثم مصرُ الشعب، الذى نحبُّ أصالته ونبغض بعض سلوكياته التى هى ردّة فعل للجهل والفقر والمرض، مثلث برمودا الذى أغرقنا فيه حكّامنا عقودًا طوالاً. وقبل كل هذا نحتاج إلى ثورة تعليم. لكى لا يفوت أطفالَنا من أجيال مصر القادمة ما فاتنا من صحيح العلم والتحضّر. نحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة لنظام التلقين السلبى، ليتحول إلى منظومة إيجابية تنويرية تجعل الطالب يتأمل ويفكّر ويحلل ويبدع. فيتحول من «ناقل» إلى «عاقل»، كما قال ابن رشد قبل تسعة قرون.