بحثت عنه فلم أجده. فى لحظة اختفى الشاعر كأنه لم يوجد فى يوم من الأيام. سألت عنه أصدقائى فأنكروا معرفته. سألت عنه الشعراء بالذات فقالوا إنهم لم يسمعوا به.
عدت إلى مكتبى وإلى مجلات الستينيات فلم أعثر له على أثر. يا عالم يا هوه. والله العظيم كان هناك شاعر اسمه عمر الأقصرى. واحدة من اثنتين إما أن ذاكرتى اختلت أو أن أهل الفضاء نزلوا فاختطفوه أو اختطفوا ذكراه.
رأيته ثلاث مرات أو أربعا . وتحدثت معه مرة أو مرتين. أذكر منها مرافعة أو على الأصح «مشاجرة» مع أمين الخولى، أراد صلاح عبدالصبور أن ينهيها فتشاجر أيضاً معه. وفى مرة ثانية رأيته يقتحم جلسة لبعض الشباب كانوا يجلسون فى حديقة الحرية وانتهى تدخله فى الحديث إلى شجار عنيف.
كان عمر الأقصرى خارجاً على كل شىء. ولم يكن له مكان يعيش فيه فبنى لنفسه كشكا من الصفيح فى شارع الهرم، وقت أن كان مكاناً نائياً. وكان فى الكشك- على ما يقال- فراش متواضع، ولكن الشىء البارز كان جداراً معلقاً عليه أربعة أنواع أو ربما خمسة من الثياب: بدلة عادية، ملابس شيخ أزهرى، ملابس فلاح، ملابس خواجة أوروبى يعيش فى مصر.. وهكذا.
وكان يستيقظ فى الصباح فيسأل نفسه: من أنا؟ ويرى إحدى هذه الشخصيات فيرتدى ملابسها ويخرج إلى الناس يتحدث بأسلوبها، ويقدم نفسه باسم غير اسمه. وأظنك تستطيع أن تخمن، كما فعل معظمنا، أن عمر الأقصرى كان يبحث عن نفسه، وهو بحث عظيم لأن معظمنا يبحث عن نفسه من الميلاد إلى النهاية دون أن يجدها.
وحتى إذا كان عمر الأقصرى قد خطفته مخلوقات الفضاء فإن تجربته انتشرت أكثر مما تخيل. وبالطبع ليس كما أراد. ذلك أنه أصبح لدينا كثيرون يضعون أزياء مختلفة على الحائط أو الدولاب، وفى كل صباح يخرجون زياً يناسب مصالحهم.
صديقى فلان ما إن خرجت المظاهرات فى 25 يناير حتى ارتدى ثوب المباركيين وألقى إلى الميدان بأفظع كلمات الهجوم. فلما رأى صلابة المظاهرات خلع الجاكت أسوة بانتخابات عام 2005، ولكن مع التنحى ارتدى أفرول الكفاح وأتى بمصور خاص صوره مكافحاً مناضلاً وكاد أن يزوّر شهادة ميلاد مكتوباً فيها أنه ولد فى ميدان التحرير، لكن ذلك لم يستمر طويلاً إذ لم يكن يريد إهدار البدل المعلقة فأخذ يلبس ويغيرها كل يوم وأحياناً كل ساعة.
أصبحت مثل رجال المباحث أفتش فيما يقوله أى شخص لعله يخطئ ويعترف بحقيقته. وفكرت لأول مرة فى حياتى فى أجهزة كشف الكذب. كنت أراها جهازاً سخيفاً. لكننى اليوم على استعداد لأن أشترى واحداً.
صرخت فى صديقى: يا رجل أين كنت مختفياً؟! فقال لى: غريب أنك لا تعرف. لقد كنت فى المستشفى أعالج من رصاصتين!! وبالطبع كانت الرصاصتان فى ميدان التحرير.
وهكذا عاد إلى ذهنى الشاعر عمر الأقصرى. وأرجو ألا تظنوا أننى اخترعته، فالناس لا يخترعون الشعراء، وأتذكر عندما سأل صلاح عبدالصبور: ألم تقل فى قصيدة: وشربت شاياً فى الطريق ورتقت نعلى؟! أجابه بالإيجاب. فقال له: إذن تصمت. وأظن أنه ظلم الشاعر الكبير الذى أراد أن يتحدث الشعر إلى الشارع.
على أى حال ذكرنى عمر الأقصرى بما قاله صلاح عبدالصبور:
هذا زمن لا يعلم فيه مقتول من قتله
ولا لما قتله
فرؤوس الناس على أجساد الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على أجساد الناس
فتحسس رأسك!
وإذا كانت الذاكرة قد خانتنى فى قصيدة صلاح عبدالصبور أو فى الشاعر عمر الأقصرى. أرجو ألا تخونكم فى اختيار ثيابكم!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
قديم أوى
مبدع وبس يا أستاذ محفوظ
عدد الردود 0
بواسطة:
تايجر
برافو برافو
عدد الردود 0
بواسطة:
مصطفى
عايز اعرف ازاى انشر المقال على الموقع ممكن الرد عليا من ادارة الموقع على mostafa_l60@yahoo