لم يعد أحد يحتمل مزيداً من الصدمات، فيمن حسبناهم وجوها للثورة المصرية، لكن القدر يأبى أن يحرمنا من هذه الصدمات المتكررة المريرة، ولعل أمرها وأقساها تلك التى تلقيناها أمس على يد الأمين العام لجامعة الدول العربية، نبيل العربى، ذلك الرجل الذى حسبناه أبرز محاسن الثورة وأملها فى أن تجدد دماء الدبلوماسية المصرية بعد أن أصابها فى عهد مبارك ما أصابها من تجلط وعفن، لكن ها هو نبيل العربى يلقى بنا فى دوامة جديدة من التحسر والندم، ليدلل أنه ومن على شاكلته من عواجيز الثورة أصبحوا خارج الزمن، ومنتهيى الصلاحية.
أمين عام جامعة الدول العربية، الذى هللنا له وحملناه فى قلوبنا، زار سوريا أمس فى تجاهل قاسٍ لمعاناة الشعب السورى تحت وطأة أعنف وأقبح الأنظمة العربية الخائنة لشعبها، لكن العربى أبى أن تقف مرارة زيارته الرسمية لبشار الأسد عند هذا الحد، وقال، بحسب ما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية، "لا يحق لأحد سحب الشرعية من زعيم"، فى إشارة منه لقول هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، إن بشار أصبح بلا شرعية، كما قال العربى، إن الاستقرار فى سوريا ضرورى للاستقرار فى البلدان العربية الأخرى، وفى سؤال عن القبضة الأمنية فى حمص وحماه قال، إن القوى الأمنية تحفظ الأمن والممتلكات العمومية من بعض التجاوزات. وأضاف، "وياريته ما أضاف": هناك جهات تروع المواطنين، لذلك لا يجب سحب الجيش من المدن.
إذن العربى يردد ما يذيعه التليفزيون السورى، الذى هو أخو التليفزيون المصرى فى عهد مبارك، الذى قال إن الذى يعتصمون فى التحرير "قلة منسدسة" ويحملون أجندات وما إلى ذلك من كذب وتضليل وتفاهات، بل يكاد يعطى العربى لبشار صك غفران على جرائمه الماضية، وتصريح عربى بارتكاب مزيد من الجرائم فى الأيام القادمة، ونسى العربى، أنه لم يكن ليأت وزيرا لخارجية مصر ثم أمينا عاما لجامعة الدول العربية لولا شباب "القلة المندسة"، الذين يشبهون إخوانهم المنكل بهم فى سوريا، ونسى العربى أن الاستقرار الذى يدعمه فى سوريا هو نفس الحجة التى كان مبارك يتحجج بالحفاظ عليها، وفى سبيل ذلك قتل وسرق وعذب واعتقل، ولا أعرف كيف يبصر رجل كبير مثل العربى فى مصر، ثم يعمى فى سوريا، هكذا دون مقدمات.
لا أصدق نبيل العربى على الإطلاق فى ما قاله أمس بسوريا، ولا أعتقد أنه يصدق نفسه، وبعدما رأيت صورته وهو يصافح الأسد، شعرت بأنه ربما يكون مجبرا على الذهاب إلى سوريا والتصريح بهذه الكلمات الخاوية، فالعربى كان عابسا واجما متيبسا، أما بشار فكانت ابتسامته البلهاء تقفز من الصورة، ولمَ لا وقد وجد فى زيارة العربى وتصريحاته مخرجاً ذهبياً من أزمته، كما وجد فيها مبرراً شرعياً لأفعاله الهمجية البغيضة، لكنى ما يطمئننى أن إخواننا من ثوار سوريا لن ينخدعوا بمثل هذه التصريحات المغرضة، وأنهم يعرفون تمام المعرفة أن الشعب المصرى يؤيد ثورتهم ويكره ذلك الطاغية القاتل بشار الأسد، ولا أبالغ إذا قلت إننا نحزن على كل شهيد فى سوريا مثلما حزنا على شهدائنا فى مصر.
بصفة شخصية، أعتذر لكل إخواننا السوريين الذين جرحهم كلام العربى، وأؤكد لهم أنه لا يمثل إلا نفسه، وأتمنى أن يرد ثوار مصر على هذه التصريحات الصادمة برفع أعلام سوريا غدا فى ميدان التحرير، بكثافة كبيرة، مع العلم بأن الميدان منذ أن انفجرت ثورة سوريا لا يخلو من عشرات الأعلام السورية، وللعربى أقول: انتبه لنفسك ولتصريحاتك، واعلم أن ثورة مصر التى تمثلها لم تكن لتنجح إلا بنجاح ثوراتنا العربية فى كل مكان، وأن ميدان التحرير الذى أعطاك الشرعية قادر على أن يسحبها منك، وأن بشار الأسد بلا شرعية الآن، ولم يكن حاكما شرعيا لسوريا فى يوم من الأيام، فهو الذى تولى الحكم بالتوريث، وهو الذى فتح باب الأحلام البغيضة للحكام العرب بتوريث أبنائهم الحكم، وهو الذى حكم شعبه بالحديد والنار والمخابرات والتعذيب، وهو الذى نفى أكثر من ثلث شعبه خارج البلاد، أو جعلهم يهربون منها خوفاً من بطشه، كل ما سبق يسحب منه الشرعية من أساسها، ويطيح به خارج الحكم قبل الثورة السورية، أما بعد الثورة فمن المؤكد أنه أصبح مجرماً عالمياً، وخائناً لأبناء سوريا الحبيبة، ولم يكن الأمر يحتاج لتصريحات أوباما أو كلينتون، ليفتقد الشرعية، لأنه بالأساس بلا شرعية، وبينه وبين الشعب السورى الآن دم وقتل ورصاص وشهداء، وعما قريب سيخرج من قصر الرئاسة إلى السجن ثم الإعدام ليكون عبرة لمن يعتبر.