لماذا لم يجمع الناس على أغنية جامعة تعبر عن ثورة 25 يناير، كما فعل المصريون دائما فى ثوراتهم؟، سؤال لا أقصد به التقليل من شأن ما قُدِّم حتى الآن، ولكنه ألح على وأنا أستقبل الأغنيات التى أبدعتها الأجيال السابقة، وكأن الثورة الجديدة النقية قامت لإخراجها من الأدراج، فى البداية علينا أن نفخر ونعتز بتراثنا الغنائى الحديث، الذى يتراكم منذ منتصف القرن التاسع عشر وأرخ للوجدان وتحولاته وأشواقه حتى وقت قريب، فهو الذى ساعد على خلق لغة مشتركة باعتباره «معرفة»، ولا يفرق بين الطبقات ولا بين الأجيال ولا بين المناطق الجغرافية، ليس فنا تحتكره النخبة، هو فن يلبى حاجة الجماعة إلى الغناء معا، وهذه الحاجة سلوك غريزى صاحَب وجود الإنسان على الأرض، والغناء المصرى يحمل سمات وخصائص المصريين، فهو حزين وبسيط وشجى، يعتمد على البداهة والفطرة أكثر من اعتماده على «الشطارة»، واذا أحس المتلقى بصدق نوايا العاشق (حتى لو كان خائبا) أحبه وغنى معه، الغناء قرب بين الناس بعد أن اتفقوا على بديهيات لم يتحدث أحد فيها، وجعلهم يشعرون أنهم يعيشون معا ويعرفون خبايا بعضهم البعض، حتى لو باعدت المسافات بينهم، وفى اللحظات العظيمة تستطيع جملة موسيقية واحدة جمع الناس، وتشعر كل واحد على حدة، أنها تخصه وحده، مثل ما قدمه سيد درويش فى ثورة 1919، أو كوكبة يوليو أمثال الطويل والموجى وبليغ ومراد منير، بالإضافة إلى العابرين للأجيال مثل عبدالوهاب وزكريا والقصبجى والسنباطى والشريف وفوزى وصدقى، تستطيع مع هؤلاء أن تتذكر لحظات من تاريخك وتاريخ أهلك بفضل أغنية كتبت ولحنت بروح محبة وصادقة، تشعر أن طاقة روحية جبارة دفعت الجميع لإنجاز العمل، وأن الموسيقيين الذين يعزفون اللحن يعبرون عن أنفسهم وأنهم فى أفضل حال، «على الربابة بغنى» مثلا جذب بليغ الجميع من قلبه، لكى يعبر عن فرح انتصار أكتوبر، الكلام كان تكأة لا أكثر، صدمة 67 لم تقدم شيئا فى البداية، ولم يجد القائمون على الإذاعة غير ألحان قديمة لمواساة الناس، ولكن أغنية «بلدى أحببتك يا بلدى» لمحمد فوزى (الذى كان قد رحل) طبطبت على الناس أكثر من غيرها، لأن اللحن لم يكن حماسيا وبلاغيا ولا استعراضيا، كان لحنا شجيا، وفى سياق آخر أدى ظهور الشيخ إمام ونجم إلى فتح نافذة جديدة فى الغناء، حرص الذين تسببوا فى الهزيمة على إغلاقها، ولكن ثورة 25 يناير فتحتها من جديد، منذ منتصف السبعينيات اكتشف النفطيون قوة مصر (غير النفطية)، وتأكدوا أن غناءها وسطوة مدرسة تلاوتها العظيمة قد تهدد نفوذهم الدينى والسياسى والثقافى فى المنطقة، وتفننوا فى تدمير الروح الجماعية الخلاقة المنسجمة منذ آلاف السنين، تم ضخ أموال طائلة لكى لا يغنى المصريون على راحتهم، من خلال شركات الإنتاج والفضائيات بعد ذلك، والنفخ فى نجوم لا يملكون أصواتا عظيمة، وتبنى لهجات عربية أخرى لحصار المصريين، ستجد مثلا الوليد بن طلال يحتكر أجمل الأصوات المصرية، لا لكى تغنى ولكن لكى لا تغنى، تم إبعاد الملحن عن نفسه وعن الناس وعن زمنه، ستجد ملحنا كبيرا مثل حلمى بكر صاحب (ع اللى جرى) «مرطرطا» فى الفضائيات يهاجم الآخرين وكأنه غير مسؤول عن تدنى الأوضاع، الملحنون الشباب الذين لم يلتفت إليهم السوق أصابهم الإحباط فتشابهت ألحانهم وبالغوا فى إحساسهم بالظلم، وعندما يغنون للوطن بعيدا عن الاحتفالات الحكوميةـ تشعر بإخلاصهم ونقائهم وحسن نواياهم الوطنية، ولكنك تكتشف أنهم معنيون بالسياسة أكثر من جماليات الموسيقى، ولم يفكروا فى حاجة الناس إلى من يفك شفرة ما يدور فى الوجدان موسيقيا، لأن الرغبة فى الغناء موجودة ومكبوتة، ولكن معظم الملحنين المعاصرين يعنيهم تلبية متطلبات السوق (أو النخبة) أكثر من أى شىء آخر، والنتيجة كما نرى، ثورة عظيمة، قد تكون أعظم ثورات المصريين، ولم يجد الناس شيئا جديدا يرددونه.. (وللحديث إذا أراد الله بقية).