عندما قامت ثورة 23 يوليو لم تستبعد كل خبرات النظام السابق بل أبقت على العديد منهم لإدارة شئون البلاد، ومنهم على ماهر، الذى كان رئيساً للوزراء أكثر من مرة فى العهد الملكى وعينته الثورة فى 24 يوليو 1952 رئيسا للوزراء.. الثورة تغيير وليست مجرد بطش وإزاحة غير رشيدة، المهم مصلحة البلد.. وأيضاً لم تستبعد كل رجال الأحزاب السابقة رغم موقف الثورة من الأحزاب بل استفادت بالخبرات الشريفة منها مثل فتحى رضوان الذى كان أحد قيادات حزب مصر الفتاة وتم تعيينه وزيراً للإرشاد القومى فى بدايات الثورة.. بعدها بدأت قيادات جديدة تتوالى على الحكم بتسلسل منطقى.
وعندما قام الضباط الأحرار بحركتهم فى يوليو 1952 لم تتحول الحركة إلى ثورة إلا فى سبتمبر من نفس العام عندما صدر قانون الإصلاح الزراعى.. هنا فقط وبموجب بدء خطوات تغيير البنية الاقتصادية لصالح الشعب كانت ثورة ومازالت.. لم يهتم الضباط الأحرار بمحاكمة رموز النظام الأسبق إلا بعد تأمين القاعدة الاقتصادية فى البلاد وضمان لقمة توفر لقمة العيش للشعب.. وبعدها تمت محاسبة كل الرموز الفاسدة.. ولو لم تضمن الثورة قاعدة اقتصادية قوية لما استطاعت محاكمة هذه الرموز الفاسدة
تفعيل الثورة وإدارتها بعد قيامها لابد أن يستند على الحكمة الرشيدة والتعقل.. مش زى ما بيصرخ الشاب اللى قابلته فى ميدان التحرير وتم تقديمه على أنه أحد قيادات شباب الثورة.. ولما حاولت أن اشرح له وجهة نظرى بأهمية تقديم فكرة المطالبة بالنهوض بالمشروع الاقتصادى والسياسى ومشروعات التنمية وتحريرالاقتصاد المصرى ومقدرات المصريين من أيدى رجال الأعمال الفاسدين، على مطالب القصاص والانتقام وإن الاستقرار الاقتصادى والنقلة التنموية هى الضمان الوحيد لمحاكمة رموز النظام الفاسد، والذين يصعب محاكمتهم الآن بسبب قوتهم الاقتصادية، وخاصة أنهم مازالوا يتحكمون فى المقدرات الاقتصادية وسوق العمل فى مصر.. صرخ وقال لى "تنمية أيه واقتصاد أيه إحنا نطهر البلد من جذروها وبعدين نبنى على نضافة"، وكأنه مقاول هدم وتجريف أراض، وفجأة التفت ورفع أنفه إلى السماء وقال لى "أنتم عملتم أيه فى 30 سنة.. إحنا اللى عملنا الثورة" وكأنه يتحدث عن طبخ حلة بليلة.
لغة غير واعية وغير فاهمة.. فالثورة هى نتاج أخير لعوامل كثيرة ونضالات أجيال متعاقبة.. ألم يدفع جمال حمدان، الذى لا يعرفه الشاب الثورجى، حياته ثمنًا لصمود فكرة الثورة والاستقلال والتحرر والإعلاء من قيمة الرفض والتحدى.. أسماء كثيرة اختفت من الوجود وتشردت وتنازلت عن حياتها وأحلامها الخاصة من أجل تمهيد الطريق للثورة.. ثم يأتى هذا الوريث المتفاخر بلا وعى لينكرها.
ما علينا.. دخل علينا فى الحوار رجل بسيط بجلابية وقال بتلقائية"الأسعار غليت مرتين من يناير وأنتم فى التحرير ماتكلمتوش عن ده.. أنتم عاوزين تقعدوا فى التحرير وبس ".. رد عليه زميل آخر للشاب القيادى قائلاً بتعالى كوميدى موجها كلامه للرجل الغلبان ومشيراً بأصبعه صعوداً وهبوطاً "أنتم الفقراء سكتم على الفقر 30 سنة من غير ما تتكلموا.. إحنا جينا عملنا لكم ثورة.. أنتم تصبروا شوية لحد ما نحل لكم مشاكلكم"... "بالذمة ده كلام".
الخطورة ليست فى أبنائنا فليس لدى شك فى حسن نواياهم ولا تنقصهم إلا بعض الخبرات والرقى الإنسانى، والذى نتمنى أن يكتسبوه فى أقل وقت.. المشكلة أن هناك من يُحَوّط على هؤلاء الشباب فى حرص على ترسيخ المفاهيم الخاطئة لديهم تحت دعوى تشجيعهم وتأييدهم والإقرار بعقد ملكيتهم لثورة الشعب المصرى، تماماً مثلما فعل أمن النظام السابق فى الأيام الأولى من الثورة عندما حاول ترسيخ هذه الفكرة لفصل الوجود الشبابى عن حركة المعارضة المصرية للسيطرة على الأحداث، والغريب أن معظم هؤلاء من أصحاب الأدوار الصاعدة والمتربحة والمستفيدة فى كل مشاهد النظام السابق وهى نفس الوجوه التى كانت تحمل فى كل جانب من رأسها وجهاً مختلفاً يضمن لها البقاء فى المقاعد الأولى.. حمل هؤلاء وجوههم الكثيرة وخبراتهم فى القفز على الأفكار وسرقة الأحلام، وانتقلوا مع الثورة ليضمنوا مقاعد الصف الأول بصرف النظر عن مصالح البلاد.
استرداد الاقتصاد المنهوب من أيدى رجال الأعمال الفسدة وإعادته للشعب هو المطلب الأول والضامن للقضاء الكامل على النظام الفاسد ومحاكمة رموزه والقصاص لدم الشهداء ووقتها فقط نستطيع أن نقول إنها ثورة.