كتب الأساتذة بهاء طاهر وفهمى هويدى وجلال عارف فى رحيل مصطفى نبيل كلامًا صادقًا ومؤثرًا، وعددوا مآثره وتحدثوا عن نبله واتساقه مع قناعاته، ولكنهم لم يتطرقوا إلى خطورة خلو العالم من رجل طيب مثله، رجل كان هدفه الأول هو إشاعة المناخ الإبداعى، والتعبير عن قوة مصر الحقيقية والتنوع الفكرى والثقافى فيها.
كانت مجلة الهلال فى عهده برلمانا حقيقيّا للثقافة المصرية، يتجاور فيها شكرى عياد ورشدى سعيد وكمال النجمى والطناحى ومستجير ولطيفة الزيات وعبدالعظيم أنيس ومحمود بقشيش وجلال أمين ومحمد عودة وصافيناز كاظم ومصطفى سويف ومصطفى صفوان وغيرهم.
لم يكن رئيس تحرير تقليديّا، كان يستمع أكثر مما يتكلم، ويمتلك ابتسامة نادرة قادرة على حل أى مشكلة، كان الرجل يعرف أقدار الناس، لم يكن سلطويّا مثل كل رؤساء التحرير، ربما لأن غالبية المتعاملين معه كانوا من المتحققين، الذين يكتبون للهلال بدون مقابل أو بأجر رمزى مضحك، ولكنهم يعرفون قدر المجلة العريقة وقدر القائم عليها، سعدت بالعمل مع الرجل الكبير لمدة عامين، منتصف التسعينيات (مع المرحوم إبراهيم منصور والشاعر ياسر عبداللطيف).
وأشهد أنه عف اليد واللسان، أبيض القلب، محب، يدافع عن التنوع وحق الاختلاف، وغير خاضع للابتزاز، لم يكن حريصًا على الركض فى اتجاه الأضواء، ولم يتحدث عن العمل خارج مكتبه المتقشف، الذى ينبغى أن تتحدث فيه بصوت مرتفع (لأن صوت التكييف عالٍ)، إلى جوار المجلة، كانت سلسلة روايات الهلال نافذة مصر الحكاءة التى أطل منها معظم روائيى مصر والعالم العربى، وكانت أيضًا بوابة معرفة الرواية العالمية، كان النشر فيها يعنى أنك أصبحت كاتبًا كبيرًا، وكان يجيز العمل بعد أن يقرأه معه أكثر من شخص من ذوى الذائقة الرفيعة، وأحيانًا كان ينشر أعمالاً لم ترق له ولكن من كان يستأنس بآرائهم تحمسوا لها، وأيضًا كتاب الهلال الذى ناضل به نبيل ضد السطحية والسوقية والاستسهال الذى صبغ الكتابات التى تتناول قضايا اجتماعية وتاريخية وفكرية مهمة. كان يعرف أنه لا يعبر عن ذائقة واحدة ولا عن اتجاه واحد، كان ينتخب الأصوات النقية فى كل اتجاه لتكون موجودة، وكان حريصًا على قارئ الهلال فى الخارج وخصوصًا فى أمريكا وأوروبا، وهو قارئ مرتبط بالمجلة منذ عشرات السنين، ويطل على مصر الكبيرة من خلالها، وكانت القضية الفلسطينية شغله الشاغل، بإحساس «عروبى» يتجاوز الفكر القومى التقليدى، توطدت علاقتى بالرجل أكثر بعد تركى المكان، وجمعتنى معه ليال عظيمة وسط أصدقاء يحبون الناس ويعملون بإخلاص من أجلهم، وبعد تركه الهلال كتبت مقالاً فى محبة الرجل أغضب رئيس التحرير الذى خلفه، لا تعرف لماذا؟ رغم أننى لم أقترب منه، وظل مصطفى نبيل فى مخيلتى شخصًا محترمًا وبسيطًا وبشوشًا وعميقًا ومعتزّا بنفسه، قام بدوره على أكمل وجه ولم ينتظر مكافأة من أحد.. عندما هاتفنى الفنان الكبير جميل شفيق ليخبرنى برحيله، كنت خارج القاهرة ولم أتمكن من اللحاق بالعزاء، وشعرت بحزن حقيقى، لا بسبب رحيل رجل عرفته، ولكن لأن خلو العالم من رجل مخلص مثل مصطفى نبيل، هو خسارة فادحة.