لم يكن بوسعى أن أحتمل الحدث، تخيلته كثيراً.. وقرأت عنه.. واحتويته واستعددت للقاء القدسى.. ولكنى أبداً لم أكن أتخيل أن الأمر بهذه الرهبة وهذا الجلال، حين وقفت بداخل الكعبة المشرفة.. بعد أن أتيح لى أن أحضر المراسم الخاصة بغسلها.. وهى منحة إلهية كنت أترقبها منذ سنوات وأتمناها.. نعم زرت الأرض الطاهرة أكثر من مرة.. لأداء العمرة وفريضة الحج.. ولكنى هذه المرة أحس بشىء آخر، أحس بجسدى كله يحمل مشاعر غريبة، ما بين الفرحة والتأمل والترقب والخوف.. شىء بداخلى يشدنى إلى داخل المكان المقدس، وشىء آخر يجعلنى أقف فى مكانى ثابتاً لا أتحرك.. هذا الصراع العجيب.. يا له من صراع جميل شديد الغموض يتصاعد فى داخل روحى، وكأنه يعيد تشكيل نفسى وجسدى ويمسح ذنوبى الماضية، ويرسم خريطة جديدة لمستقبل أراه مبهراً ناصعاً أمامى أبيض كالثلج، وبريئا ونابضا بالحياة.. هأنذا أدخل فى داخل الكعبة الشريفة، تنساب بداخلى عشرات المعانى والذكريات، تزداد تماسكاً مع بعضها البعض وتعيد معها التاريخ الذى أراه يولد أمامى، كأنه طفل ينمو ويزداد يقيناً، بعد أن استبد الشك بنا سنوات طويلة، انتشر فيها الحقد وزادت الضغينة.. وانسلخ التسامح بين الناس.. إلا أننى فى هذا المكان المقدس أحس شيئاً فشيئا بأن معانى جديدة تتخلل جسدى وروحى وتعلمنى وتنقلنى إلى النور الأسمى وإلى الحب والعدل والسلام.. إحساس لا يضاهيه أى إحساس فى الدنيا.. وكأننى أغتسل من كل ذنوبى.. لقد رسم القدر أن تكون المناسبة الجليلة فى يوم مولدى، لكى أعاهد الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الأيام المباركة هى مولدى الحقيقى اليوم أولد من جديد وتسكننى البراءة.. تنقلنى من الظلام إلى فجر جديد أتعهد فيه ألا أغضب الله مرة أخرى.. حتى أحلامى الخاصة التى تمنيتها أحس أنها تتحقق وتوشك أن تتجسد أمامى فى اكتمال. حقاً لا شىء يعلو هذا الخشوع، رهبة لا يمكن أن أصفها.. حتى لقد خشيت أن أنظر إلى سقف المكان.. لم أجرؤ أن أرفع عينى إلى أعلى وأنا داخل الكعبة المشرفة وسألت كل من حولى: هل نظرت إلى فوق.. ولم يجبنى أحد..؟! لأن الكل كان بداخله هذا الإحساس العجيب.. إنها سيمفونية من الحب والجلال والرهبة.. وحين سجدت من فوق الحجر الأسود.. أحسست بنور يحتونى ويحتوى المكان كله.. لم أصدق نفسى.. ولا أتخيل أن الله سبحانه وتعالى قد أعطانى هذه المنحة العظيمة.. لم أشعر فى حياتى بمثل ما شعرت به.. فقد احتلت الجوانح كل كيانى وأسكتتنى، القلب والعين هما اللذان يتكلمان.. أما لسانى فقد خشع، بدءاً من وصولى إلى الكعبة ومروراً بتقبيلى الحجر الأسود وارتجافى أمام لوحة: الله أكبر.. حتى رأيت السلم أمامى وقتها عشت فى هذا الإعجاز وهذه الآيات المضيئة التى تنشر عطرها فى كل مكان، حتى أننى لم أعد أتمالك مشاعرى ولا أعرف كيف أصف ما أنا فيه.. فقد عرفت أن هذا الحدث، هو فاصل بين عهدين، سنواتى السابقة وعمرى القادم لكنى غبت فى رغبة تملكتنى نحو مزيد من المعرفة.. وإن كانت معرفتى لن تصل إلى شىء.. أمام إحساسى بالتضاؤل فى هذه الأرض المقدسة.. لكن الدموع غلبتنى وتهت بين التساولات واستبدت بى حالة فقد تمنيت ألا أتجاوز هذه الساعات.. أريد أن يتوقف الزمن وتبقى الأرض كما هى ويبقى الوقت بلا حركة.. من الصعب أن أودع هذه الأحداث فبرغم أنها مجرد أيام.. إلا أنها عمر طويل.. هى كل حياتى.. هى ما أبغيه.. هذه مشاعرى قد صارت هى كل ما أريد.. وبعدها أحسست أن الكلام قد انتهى.. وأن كل شىء لا معنى له أمام الحدث الأكبر.. ولم يبق أمامى سوى مشهد وصولى إلى أطهر أرض عرفها التاريخ.. وهذه غايتى أن أعيد ترتيب نفسى وألا أعود إلى المعصية مرة أخرى، وألا أسمح لجسدى أن ينتصر على روحى.. لأن هذه الرحلة من القوة والقدوة بحيث أنها غيرت كل ما فى داخلى.