نعم لم تقم ثورتنا الشريفةُ مصادفةً أو من فراغ، بل سبقتها بلا شك قوى تعبوية ناعمة من مقالات تنويرية وقصائد تثويرية وأفلام تعبوية ظلّت تُبصِّر المواطنَ المصرىّ بحجم الظلم الواقع عليه. ويأتى المخرج خالد يوسف، المواطن المصرى الشريف، ليكون أحد أركان تلك الثورة. ليس فقط بوصفه أحد المرابضين الدائمين فى ميدان التحرير، يهتف ضد النظام، ويوعّى الناس بمفاسده، ولا حتى لأنه، بعد الثورة، ظلّ يشارك فى مؤتمرات تحاول رسم مستقبل مدنىّ نظيف لمصر الغد، بل قبل ذلك بكثير، كانت أفلامه، بسيناريو ناصر عبدالرحمن، إحدى أخطر مفردات تلك الثورة بما يُسمى «القوى الناعمة» للتنوير. هدرت ثورة يناير كالطوفان الشعبى العاصف على نحو فطرىّ أبهر الدنيا، لتلتفّ حول مجموعة الشباب الذين أطلقوا شرارة الثورة الأولى والحملات الواعية على صفحات فيس بوك لتبصير الناس بالدور الغثّ الذى يلعبه النظام وجهازه الأمنى بكل فاشية ضد الشعب المصرى المسالم، فاختاروا يوم 25 يناير، عيد الشرطة، ليعلنوا على العالم فضائح هذا الجهاز البوليسىّ الذى عذّب الأبرياء على مدى عمره، تمامًا مثلما اختار أفراد الجماعة الإسلامية أن يكون اغتيال السادات يوم عيد ميلاده «المجازى»، فى 6 أكتوبر، باعتباره يوم انتصار مصر على عدوّها التاريخى إسرائيل فى عهد السادات. يبدو أن التصفية يوم عيد الميلاد، طقسٌ مصرى أصيل، مع الاختلاف البيّّّّن فى القياس والمنهج، بين ثورة يناير البيضاء الراقية، التى خرجت تحمل شعار «سِلمية» على نظام فاشى مستبد، وبين إهدار دم إنسان، مهما اختلفنا معه، كما فعل آل عبود والإسلامبولى. على أن هذه الفطرية التى أخرجت شعبنا المسالم عن صمته الطويل، لم تكن فطريةً تمامًا، بل سبقتها تعبئة ضخمة ملأت الشعب الصبور وعيًا سياسيًّا رفيعًا جعلته يُدرك هول ما يقع عليه من مظالم، فشُحن بالغضب الذى راح ينفجر بالتتابع فى 8000 مظاهرة ووقفة احتجاجية واعتصام، فقط فى السنوات الخمس الأخيرة، إلى أن تجمعت هذه الشتاتات الغاضبة فى ثورة واحدة هائلة انفجرت يوم 25 يناير المجيد. تقف وراء ذلك الوعى الشعبى عشرات القوى «الناعمة» ظلّت تزكّى وعى الشعب بحقوقه المُهدَرة وتُعلمه بما يجرى فى كواليس النظام من مهازل واستهانة بقيمة الموطن المصرى، ذاك الذى لا يمثل بالنسبة لحكومته إلا «عبئًا ثقيلاً» يجب التخلص منه، كى يستريح الحاكمُ والحكومة. مقالات كتّاب شرفاء ظلّت بانتظام تهاجم الحكومات المتعاقبة والحاكم المستبد، فكانت، على مدى سنوات طوال، تُبصِّرُ الشعب المصرى بحقوقه التى ينهبها رجال الأعمال المحتكرون ثروات مصر ليتركوا الشعب جائعًا ومريضًا. أولئك الذين يصدّرون للعدو خيرات بلادنا، ويسرطنون، فى المقابل، ماءنا وطعامنا وهواءنا، من أجل تقليص حجم الشعب «الفائض عن الحاجة». كذلك كانت الأفلام الهادفة، التى عملت الرقابةُ طوال الوقت على قصقصة ريشها كى لا تطير حاملة للشعب أفكارَها التنويرية «التثويرية». فيلم «هى فوضى»، فضح ما يدور فى كواليس أمناء الشرطة من بلطجة مكشوفة وفرض إتاوات على المواطنين كى يتواطأ على مخالفاتهم أو يسهّل لهم أمورًا عصيّة، مشروعة، عطلتها البيروقراطية والفساد الذى كان ينهش فى أوصال مصر الصابرة على ما ابتلاها اللهُ به من حكومات تفنّنت فى كراهية المواطن وتعذيبه. «حاتم»، أمين الشرطة فى الفيلم، هو فصيل ضخم كان منتشرًا حولنا فى أقسام الشرطة. كنا نراه ونتعامل معه يوميًّا دون أن يجرؤ أحدٌ منا على رفع شكوى ضده لرؤسائه. إذ كان يمارس بلطجته بمباركتهم وتحت لوائهم، فهو حامل أسرارهم التى لو كشفت دمرتهم. ولأن الأمر، رغم الوبال، كان لا يخلو من ضابط شريف هنا أو هناك، كان النظام يتعامل فورًا مع ذلك الشريف بالإقصاء وتكميم الفم. ولم يكن من حلّ سوى الثورة الشعبية، فى مشهد الفيلم الختامى المهيب، حين خرجت جموعٌ ضخمة من أبناء الحارة والحارات المجاورة لتهتف ضد حاتم، وعرّابيه، فى قسم الشرطة الذى يحميه ويطوّب مفاسده. فكان هذا المشهد بمثابة النبوءة الفنية لثورة يناير الشعبية. كان الدرس الذى علّم الناس أن لا حل لإنقاذ مصر سوى كتلة الشعب الضخمة فى مواجهة جبروت السلطان، الذى اكتشفنا فى يناير مدى هشاشته وخوائه.
فيلم «حين ميسرة»، الذى حصد اللعنات من الكثيرين، كان تعبئة أخرى وتحريضًا آخر للثورة بالقوى الناعمة. حين انتبهنا إلى مهازل العشوائيات والأطفال الذين يرعون فى الشوارع فيفقدون طفولتهم ويتحولون مع الوقت إلى مجرمين، يتناسلون لينجبَ الأطفالُ أطفالا! وكذلك فيلم «زواج بقرار جمهورى»، الذى أرانا أطنان الأوراق التى تحمل شكاوى المواطنين دون أمل. تحيةً لكل من نسج خيطًا فى نسيج ثورة مصر الكريمة.