فى زمن الثورات تتردد كثيراً من العقول والكتابات عن مواجهة رياح المكارثية الطاغية، وتلتزم الصمت لحظة أن تدرك أن مظلة القيم والأفكار قد انهارت.. والبعض الآخر يصمت عندما يعجز عن تفسير مشاهداته أو التعبير عنها بكلمات أو أفكار تستشرف المستقبل.. لحظتها فقط يمكن للثورات أن تتآكل وتنطفئ إذا لم تجد من يستلهم من صخبها وفورانها ضياء لمستقبل أفضل.. "دان جيديمان" القادم من خلف المحيطات والأنهار كان يدرك محنة الأفكار الثورية منذ زمن بعيد.. يعلم أن الثورات تفرز أبطالها وزعماءها لكنها دوماً تُسرق منها أفكارها، وقد تتخلى عن ما تؤمن به وسط ألاعيب وحيل السياسة، فهى تولد أفكاراً طاهرة نقية سرعان ما تتلاشى، وتصبح رماداً إن لم نجد لها مكاناً فى الوعى المجتمعى العام.. الفكرة أبسط من أن نتصور.. فهى لا تدعو لتأسيس أحزاب سياسية أو هياكل تنظيمية تجوب الشوارع والأزقة.. ولا تبحث عن تمويلات أو تدفقات نقدية، لكنها تكسر احتكار النخبة للعقل المجتمعى العام، تُنهى من العقل الجمعى فكرة النخبة التى قد تمتلك أدوات التضليل مثل ما عاصرنا فى مجتمعاتنا لأعوام طوال.. فقط علينا أن ندون ما نؤمن به من قيم إنسانية ومجتمعية، أن نعيد صياغة العقل المجتمعى بعيداً عن الصراعات الطائفية والمذهبية.. أن نستلهم قيماً إنسانية شكلت فى لحظات تاريخية منعطفات حادة فارقة ما بين السقوط والانكسار والانتصار.. البعض كان لا يؤمن بقدرة الأفكار على إحداث التغيير، كان ينصت مبتسماً ضاحكاً متصوراً أن توالد الأفكار مجرد نشاط جينى زائد مصيره إلى العدم إن عاجلاً أو آجلاً، لكنه أدرك فى وقت متأخر قدرتها على إحراق العروش بمن يجلسون عليها..
فى "ساقية الصاوى" الاثنين الماضى أجرى "جيديمان" تجربة عملية لإطلاق وتدوين الأفكار، نقل إلينا خبرة برنامج إذاعى شهير دارت أحداثه فى الخمسينات من القرن الماضى بالولايات المتحدة، وتحول عام 2004م ليصبح مؤسسة ثقافية ترفع شعار "هذا ما أعتقد"، قدم أعمالاً كتابية لم تتجاوز صفحتين لأطياف بشرية شبابية مصرية كثيرة جرؤت لأول مرة للتعبير عن ما تؤمن به من قيم، منهم من يمتهن حرفة الكتابة، ومنهم من كان لقاؤه الأول مع الأوراق البيضاء والأقلام، لكنها فى واقع الأمر لحظات لقاء صادقة للأفكار ـ تلك الوسيلة الوحيدة ـ القادرة على أن تخترق بنا مناخ الإحباط العام، وتطلق بداخلنا من جديد رغبة التعلم والاكتساب من تجارب ونجاحات الآخرين.. الثورات لا يجب أن تقف عند إحداث التغيير السياسى، أو أن تستغرقها شهوة الانتقام والتشفى، أو أن تستهلكها نظريات المؤامرة، لحظتها فقط لن يصبح لها وجود.. والديمقراطية لن تتحقق بقرار سياسى فوقى أو بآليات تداول السلطة وصناديق الاقتراع والإشراف الدولى.. أو ببرنامج تثقيفى سياسى اصطلح على تسميته تاريخياً بـ "منظمة الشباب"، ولكن بحصاد الأفكار والقيم الإنسانية التى نمارسها ونؤمن بها، وتأتى من ذواتنا ومن تجاربنا ومن الفشل والنجاح.. الرومانسية السياسية قد تكون أحياناً طوق نجاة وحيد إذا ما نجحت فى التعبير عن الأحلام والتطلعات والطموحات وصياغة مشروع سياسى يبتعد خطوات كثيرة عن كل النماذج السياسية الإقليمية السابقة التجهيز.. لكن كل ذلك لن يتحقق انتظاراً لمن يجرؤ على الحلم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة