عزيزى نبيل العربى
حالت ظروف لا دخل لى فيها فى تأخر نشر هذا المقال، أنت تعرف أن محاولة ترقيع مقال قديم مثل محاولة البناء على أساس قديم فاتته الأيام والأحداث، لكننا كما تعرف نكرر نفس الأسئلة، نعيد إنتاجها دوماً كأننا لا نتقدم لحظة للأمام، لا نعترف بتراكم التاريخ والجغرافيا، وبصراحة أكثر لأن الدم يهون ويرخص علينا كل يوم، يرخص أكثر فى ضمير شاغرى الكراسى المزمنين فى عالمنا العربى إن كان عندهم بقية من ضمير.
ولأننى أغار عليك من منطلق مصريتنا المشترك وأغار عليك من تاريخك النظيف الذى لا أريد له أن يثلوث، اعذرنى إن لم يعجبك المقال فأنا كمن ضرب المقالين فى خلاط وأخرجه.
أشفق عليك ليس انتقاصاً من قدرك، فأنت واحد من الذين ساهموا فى كتابة تاريخنا، وكجندى حقيقى يعرف معنى الدفاع عن وطنه، لم يضرب عيارين فى الهواء بل وضعه سلاحه فى خزانته بعد تنظيفه، استعداداً لما قد يطرأ أو ليسلمه لمن بعده صالحاً جاهزا.
نعم شاركت فى صنع تاريخنا بالوعى والعلم والإيمان بحقوقنا فى وجه العدو الصهيونى تحديداً، شاركت بالعمل والصمت، لكن الأحداث كان لها رأى آخر، صنعت لك صورة أخرى حين حملتك رياح الثوار إلى معقد الخارجية، كان يمكن أن تكون فى أضابير تاريخنا المرتبك، مستقبلك خلفك كما يحلو للأستاذ هيكل أن يقول عن نفسه، يكفيك ما كتبه د.جلال أمين حين قال إنك استطعت بكلام بسيط واضح أن تقدم رؤية وحلولاً لمشاكل كانت مزمنة ومعادلة تماما للتفكير المزمن للنظام السابق المزمن.
لكن الجامعة العربية ليست وزارة الخارجية، ولم تصلها رياح الثورة إلا على أعطاف ملابسك، عمرو موسى الدبلوماسى النبيه الذى يملك الكاريزما وناصية اللغة لم يستطع أن يقدم شيئا، حاول لسنوات أن يجعل الجامعة توافق ولو على منظومة محكمة العدل العربية وحدها، لكنه اصطدم بالأنظمة، الجامعة جامعة الأنظمة، فاضطر أن يقترح مسارب أخرى، من بينها البرلمان العربى الذى ضم فاسدى برلمانات الأنظمة فانتقل الفساد من شوارع الدول إلى أروقة الجامعة وبلغة عربية فصحى، حاول أن يزرع الديمقراطية فى أرض غير ديمقراطية، بأفراد لا يعترفون بها ولا يكرهون شئيا سواها.
صدقنى لم تترك له الأنظمة سوى النضال باللغة ضد العدو الإسرائيلى تارة وضد القرصنة فى الصومال تارة أخرى، وحين ضاقت عليه الحلقة قال تعبيره الشهير: أنا لا أملك جيشاً. كانت الأقدار رحيمة به حين اضطرت الجامعة لإصدار القرار المتعلق بليبيا.
مدير منظمة العفو الدولية طالب من قلب الجامعة باتخاذ قرارات ضد سوريا، النظام السورى اختطفنا جميعا منذ أربعين عاما خدمة لممانعته الفارغة، وأطلق سدنته ليناضلوا باللغة – ها نحن نعود لحديث اللغة مرة أخرى ولكن بطعم مر- لكن الشعب السورى الآن انتقل من اللغة إلى الفعل، ودمه المراق يصعد أمامك درج الجامعة لقد تألمنا جميعاً من تصريحاتك عقب زيارتك لسوريا، وترديدك لنفس الكلام الذى يستغفلنا به النظام السورى كل يوم حول التدخل الخارجى والمؤامرة، وكأنك بتصريحاتك أكدت على كل ما رددته الكتيبة الإعلامية لنظام يستخدم ضد مواطنيه أبشع مما استخدمته إسرائيل ضد الفلسطينيين العزل، وقلت فى نفسى أنك ربما اعتقدت أن اجتياح الدبابات السورية وقصفها للمدن البريئة والمدنيين العزل إنما هو بروفة لما سوف تفعله حين تتجه لإسرائيل، لعلك سمعت حديث الأستاذ هيكل قريباً حين قال إن الجولان لن تستعاد إلا بالقوة، وخشيت لحظتها من اختلاط الأمر عليك فى وجهة الدبابات.
الثوار وبعض الشعوب، لعلهم لا يعلمون أن الجامعة فى الأخير هى حاصل إرادات الأنظمة – طبعا أنت تلاحظ أننى لا أستخدم لفظ الدول متعمدا وأرجو أن تسامحنى _ وأن التوافقات التى قد تنشدها وتعمل عليها هى غير ما تتوقعه الشعوب وما تريده نخبتها.
صدقنى، التصفيق الذى سمعته لعمرو موسى فى لقائه الأخير كان تصفيق الموظفين الذين رفع رواتبهم ومعاشاتهم إلى الحد الأقصى دون انتقاص من براعة الرجل، لم يكن تصفيقا لنجاح التجربة، كان فى الحد الأقصى نجاحا للتوفيق بين رغبات الأسرة الضيقة وأطماعها، وعدم قدرة على المواءمة بين رغبات الأنظمة وأطماعها.
رياح الثورة فى الشارع، ورماح الأنظمة فى قلب الجامعة، كل يحاول أن يفرض واقعه وأنت بين الاثنين واقع، يبدو أنك ستعود إلى ما قاله الأستاذ هيكل من قبل بأن عليك أن تعود للثقافة والكهرباء واللغة كى تستطيع أن تقدم فيها شيئا للناس والتاريخ، لكن هذه لحظتك الحقيقية والناس تنتظرك، إن كنت تريد لأحد أن يعتبر ويعتبر جامعتك.
ساءنى وساء الكثيرين تصريحك عن ضرورة وقف العنف فى سوريا، كأنك صدقت النكتة الشهيرة عن أن الشبيحة أطلقوا النار على قوات الأمن فمات المتظاهرون.
أوجعنى كثيراً لأننى أقدرك، إن تصريحك جاء متزامناً مع تصريح البابا وأقل لغة منه، مع أننى أحبك أكثر من البابا.
ترتيب البيت سيأخذ منك وقتا، ستسمع أن المصريين يحصلون على الحصص الكبرى من الوظائف وهذا صحيح إلى حد ما، لكن كل المنظمات العربية والإقليمية تستعين بالعدد الأكبر من دولة المقر، وإن كنت أتمنى أن تفسح للطاقات العربية المهدرة بحقها أولاً، كى لا يفتئت أحد على مصر الثورة، كى لا يقول إننا اختطفنا الجامعة، وأن تكون مصر الثورة وتونس الثورة وكفاح بقية الشعوب العربية معتبرة بحق فى قيادتك للجامعة، وأن تعود مصر حضناً كبيراً، وأن تعكس معنى العدالة الحقيقية التى انتفض من أجلها الثوار فى كل أنحاء الوطن العربى، جميل أن نقول الوطن العربى مرة أخرى.
وأخيراً أهمس فى أذنك، المسئولون عن الثقافة فى الجامعة لا يعرف أحد منهم بسهولة أو بصعوبة اسم ماركيز الروائى الأشهر فى العالم، ولا يعرفون ساطع الحصرى ولا سمير أمين ولا أنيس الرافعى ولا حتى على فخرو، بالكاد يعرفون عزمى بشارة من قناة الجزيرة.
اعذرنى إن كنت محبطاً لك بعض الشىء، فحين قررت الجامعة أن تصنع حلقة عن الحضارة العربية، ظلت تتصارع بمن تبدأ، وبعد عشر سنوات أنتجت حلقة واحدة يتيمة ربما تشبه نظرتنا للحضارة التى يمكن لك ببساطة أن ترى الدم المعقود فوق جبهتها.
تركيا أردوغان لن تطالب الآن بمعقد المراقب مثلما فعلت سابقا، تبحث عن معقد زعامة منفرد، وإيران لن تسكت، وستختلط الأوراق أكثر.
الآن نحن نريد منك أن تناضل معنا ولو باللغة، تحديداً باللغة.
الدم المراق على الأرض، الناطق على شاشات الفضائيات، يصعد الآن درج الجامعة.
أشفقت عليك فى البداية، الآن أشفق عليك أكثر.
أتمنى أن تعذرنى.