هنا نحن أمام أهازيج وفلكلور وحكايات واقعية, مزج فيها المصريون بين الصيام والصلاة والمقاومة السلمية السلبية، لقد امتزج كل ذلك بالطبيعة المصرية الروحية الإنسانية، فصارت جزءًا من مكونات الشخصية المصرية والجماعة المصرية ككل، فنحن حين نتعرض لمظالم وتحديات نحتاج إلى ضرب من الإعجاز، نصوم ونصلى ونعتكف ونبتهل إلى الله، ونعتبر أن هذا هو التمهيد الحقيقى للانتصار، فالنصرة على الذات تسبق مواجهة الظالم، أغلب معارك المصريين دارت مقترنة بتلك المكونات، ولذلك فمفهوم الشفاعة لدى المصريين، مسلمين وأقباطًا ويهودًا، يختلف كثيراً عن أصحاب الديانات الثلاث فى العالم، فهم لا يعبدون الولى أو القديس أو أصحاب المقامات الرفيعة، بل يتقربون منهم طريقاً ووصولاً للمولى عز وجل، ويسمونهم بأسماء تحمل دلالات موضوعية حضارية، فالسيدة زينب (الطاهرة)، والسيدة نفيسة (أم الغلابة)، والسيدة العذراء (البتول)، فتنتشر لفظة البتول على الكثيرات من صاحبات المقامات المقدسة، ونجد سيدنا الحسين رمزاً للمعارك غير المتكافئة، وجزءاً من الحشا المصرى فى الدفاع عن الحق، مهما كانت قوة الظالم، ويمتلئ الأدب المصرى، خاصة أدب نجيب محفوظ، بالدلالات والرموز التى تحمل ارتباطاً مصيرياً عميقاً بين المصريين وآل البيت خاصة الحسين والسيدة زينب وغيرهما، رغم أن المسلمين المصريين من السنة الأقحاح.
وعلى الجانب القبطى نجد مارجرجس بحربته يقتل التنين، وينقذ الفتاة العذراء، ويعتقد الكثيرون فى الدفاع عن هذه الأسطورة بدلالات ورموز مختلفة، فتارة ترمز هذه الفتاة العذراء للكنيسة، وتارة أخرى ترمز للوطن، والتنين تارة يرمز للشيطان، وأخرى للظالم والمحتل.
ومن المفارقات أن المصريين يعتقدون أن مارجرجس بطل رومانى، رغم أن أغلبية الأقباط المصريين أرثوذكس، ومن هنا تبدو عبقرية هذا الشعب العظيم، فهو يتعاطف مع المظلوم فى مواجهة الظالم، بغض النظر عن توصيف هذا الأسلوب الروحى مذهبياً، فرغم أنهم من المسلمين السنة فإنهم أكثر من الشيعة حباً لآل البيت، ورغم أنهم من الأقباط الأرثوذكس، فإنهم أكثر من الكاثوليك ارتباطاً بالشفاعة. أيضاً يحب المصريون إضفاء الطابع العائلى على آل البيت (ابن بنت الرسول «ص») وينادونهم بذلك (يا ابن بنت النبى «ص»)، وكذلك الأمر على السيدة زينب والسيدة فاطمة وأخريات. وأيضاً كلمة العائلة المقدسة منذ أن لاذت هذه العائلة بمصر، وفى أغلب أيقونات العذراء القبطية لا تبدو العذراء منفردة كما فى العالم الغربى، فهى إما حاملة طفلها «يسوع»، أو مع باقى العائلة المقدسة.
وهكذا ارتبط التدين المصرى بالصوم والشفاعة آخذاً خصائص حضارية متفردة لمواجهة الظلم قتالاً مثل مارجرجس والسيد البدوى، أو مواجهة الظلم مهما كانت المعركة غير متكافئة، مثل سيدنا الحسين، وسائر القديسين المصريين الذين واجهوا الرومان، أو مقاومة سلبية مقترنة بالقديسات مثل العذراء، والسيدة زينب وغيرهما، وكذلك إضفاء التماسك العائلى على آل البيت أو العائلة المقدسة، ومن ثم لا توجد قرية مصرية ليس لها شفيع، سواء كان من أولياء الله أو قديسًا، وهكذا يرتبط كل ذلك بالنذور والصدقات ونصرة المظلوم وديوان المظالم، ورسائل إلى هؤلاء وشموع تنير وبخور.. رمضان كريم.. وللحديث بقية.