مثل كل ثورات العالم تمر الثورة المصرية بموجات مد وجذر، وأعتقد أن ثورتنا تمر بواحدة من أسوأ موجات الجذر. وهناك ملامح ومظاهر عديدة لهذا الجذر، الذى يهدد بتحويل ثورة عظيمة إلى مجرد انقلاب يحافظ على نظام مبارك ولكن بعد إصلاحه وتجديده.
لعل أهم مظاهر وملامح الجذر الثورى أن قوى الثورة، التى وقفت فى وحدة وتماسك رائع فى مواجهة نظام مبارك، انقسمت على نفسها منذ استفتاء مارس الماضى بين أنصار الدولة المدنية وأنصار الدولة بمرجعية اسلامية، وتعمق الانقسام والاستقطاب على خلفية الدستور قبل الانتخابات، ثم فزاعة المبادئ فوق الدستورية. ولاشك أن هذا الانقسام أدى إلى:
عدم إمساك قوى الثورة بزمام المبادرة وتبديد قدرتها على العمل المشترك لاستكمال أهداف الثورة.
السماح لقوى الثورة المضادة بالعمل بحرية أكبر. تعظيم دور المجلس العسكرى وانفراده باتخاذ قرارات عديدة - إعلان المبادئ الدستورية وقانونى الأحزاب والانتخابات - دون حوار مجتمعى يسمح بتحقيق قدر من الوفاق الوطنى.
ثانى مظاهر الجذر الثورى أن حكومة شرف الأولى والثانى تجردت من شرعيتها الثورية، التى اكتسبتها فى الميدان، وتحولت إلى مجرد سكرتارية تنفيذية للمجلس العسكرى تفتقر للرؤية والخيال السياسى، فلم تعلن عن برنامج عمل محدد للمرحلة الانتقالية، أو تحدد نظام أولويات لتحركاتها فى الداخل، والخارج بل على العكس أبقت على رموز نظام مبارك فى أجهزة الدولة، والأهم حافظت على الفكر والسلوك البيروقراطى البطىء والمتردد، الذى ميز أداء الدولة فى عصر المخلوع، مما أدى الى إضاعة الوقت وإهمال ملفات ساخنة كانت تستحق سرعة الحسم وفى مقدمتها الأمن والعدالة الاجتماعية، والإنتخابات والتحول الديمقراطى. وحقوق الشهداء، وكل هذه الملفات قنابل موقوته يمثل كل منها مظهرا من مظاهر الجذر الثورى.
غياب الأمن يشكل ثالث ملامح الجذر فى ثورتنا، وربما أخطرها، فالأمن مقدم على الديمقراطية وحقوق الإنسان لأنه ببساطة شرط لها، والمفارقة أن الانفلات الأمنى يتزايد، ويأخذ أشكالا جماعية، تتركز فى الأطراف - سيناء والصعيد والعشوائيات - والأحياء الفقيرة، بينما الحكومة والمجلس العسكرى لا يبادران بتغيير وزير الداخلية أو إيجاد صيغ جديدة لتفعيل الأداء الأمنى، الأمر الذى يخلق تحديات خطيرة تهدد الأمن القومى وسلامة المواطنين، ويقضى من الآن على أى فرصة حقيقية لإجراء انتخابات نزيهة. وأعتقد أن استمرار الانفلات الأمنى يباعد بين الأغلبية الصامتة والثورة، وربما يدفعها للكفر بالثورة خاصة أن أنصار مبارك يعزفون على نغمة الأمن والاستقرار أيام مبارك مقابل الانفلات الأمنى والركود الاقتصادى بعد الثورة. من هنا تثار شكوك مشروعة بشأن وجود قوى فى الحكم والدولة تتعمد استمرار الانفلات الأمنى للإساءة للثورة - وكأن الثورة هى المسؤولة عن الانفلات الأمنى - وتبرير استمرار المجلس العسكرى فى الحكم.
المظهر الرابع للجذر الثورى يلخصه الغياب الملحوظ للعدالة الاجتماعية سواء فى خطاب الحكومة أو قوى الثورة، فالموازنة العام الحالى هى صورة مما كان ينتجه الحزب الوطنى، وقرارات الحكومة لم تلبى الحد الادنى من مطالب وحقوق الفقراء - 40 % يعيشون بأقل من دولارين - والتى ارتفع سقفها بعد الثورة، بل على العكس جاء الحد الأدنى للأجور هزيلا، ولم تعلن الحكومة عن الحد الأقصى للأجور، وارتفعت الأسعار، مما ضاعف من معاناة أغلبية المواطنين، وجعل كثيرا منهم وبتأثير من دعاية فلول نظام مبارك يكفرون بالثورة، خاصة أن تباطؤ الأداء الاقتصادى رفع من أعداد العاطلين عن العمل. من هنا أعتقد أن الشعور بالظلم الاجتماعى وبأن الثورة لم تحقق المتوقع، علاوة على كسر المصريين لحاجز الخوف قد يدفع نحو تفجير ثورة جياع، من المرجح أن تأخذ شكلا عنيفا وتخريبيا كان كثير من الباحثين والكتاب يتوقعون حدوثه قبل ثورة 25 يناير السلمية.
مظاهر الجذر الثورى كثيرة والمخاطر أكثر، لكن وبالقطع هناك حلولا ومخارج نحقق من خلالها أهداف ثورتنا، ونقطة البدء من وجهة نظرى هى الحوار والتفاوض بين القوى التى صنعت الثورة، وبينها وبين الحكومة والمجلس العسكرى من أجل تقييم موضوعى لأداء الثورة ومشاكلها والتوافق على نقاط جديدة لضمان الأمن والعدل الاجتماعى والإجراءات والقواعد المنظمة للانتخابات.