قبل سنوات كنتُ فى لقاء على الهواء بقناة «النيل الثقافية» مع الإعلامى الصديق «جمال الشاعر»، وسألنى: فى رأيك، كيف تخرج مصرُ من محنتها، آنذاك؟ فقلت له: «نحتاج إلى شىء من البرجماتية!» واتسعت عينا الشاعر دهشةً (هو شاعرٌ جميل أيضًا، وليس مجرد اسم ولقب). استنكر الشاعرُ أن تخرج مفردةٌ ميكيافيلية كهذه من فم شاعرة مثلى! برجماتية؟! كيف؟! ولكننى كنتُ دقيقة فى اختيار المفردة التى تعبر عن فكرتى، ولم تخُنِّى اللغةُ كما ظن صديقى الشاعر. نعم، نحتاج أن نكون عمليين جدّا، ومن حقنا الآن أن نبحث عن مصلحة مصر، مصر فقط، بعد عقود طوال من التضحية والبذل والعطاء حدَّ الاستنزاف من أجل آخرين. أولئك الآخرون الذين لم يُقدّروا مآثر مصرَ وأياديها البيضاء عليهم. «الشقيقةُ الكبرى» فى حاجة إلى أن تستريح وتُغلق الباب على أبنائها وتعيد ترتيب أوراقها لكى تبنى ما تهدّم منها من أجل أشقائها العرب، الذين كبروا وقويت شوكتهم وفاض نفطُهم وأغرق العالم، ومازالت مصرُ تبذل العِلمَ والجهدَ والدمَ حتى نَحل عودُها وضعُف اقتصادُها وسقط أبناؤها تحت خط الفقر، وخلف ركام المرض، ووراء غيهب الجهل والضياع. فى قضية فلسطين فقط، لم يُرَقْ دمٌ أغزرُ من الدم المصرى طوال عقود. مصرُ وحدها هى التى حملت محنة فلسطين فى قلبها الكبير، وباستثناء الملك فيصل الذى قطع البترول عن العالم من أجل فلسطين، لم يُسهم حاكمٌ عربى فى حروبنا ضد إسرائيل التى خاضتها مصرُ وحدها، بل أمعنوا فى الغرق فى ملذات النفط والدولار، وتركوا مصر للحروب والفقر. ومع هذا ينظر إليك الفلسطينىُّ ويقول إن مصر سبب خراب فلسطين! لم نسمع كلمة شكرًا! حين انفجر النفطُ فى بلاد النفط، وبدأوا يبنون مدنِيَّتهم الحديثة، لم يبنِ هذه المدنيةَ إلا مهندسون مصريون، ولم يُعلّم أبناءهم إلا مدرسون مصريون، ولم يطبّب مرضاهم إلا أطباء مصريون، ولم تبنِ منشآتهم العصرية إلا سواعدُ مصرية كادحة، ومع هذا لم نسمع كلمة: «شكرًا»، بل جُلِد أطباؤنا فى بلاد النفط، وأُهين عُمّالنا على أيدى الكفيل، فيما يشبه عهد الاسترقاق! زعيم مصرى اسمه جمال عبدالناصر ساهم بشكل أساسى فى صناعة ثورة الجزائر، ثم يُحرق علمُ مصرَ فى مباراة كرة قدم، ولا تتقدم حكومة الجزائر باعتذار رسمى يليق باسم مصر وشرف عَلمها!
لا مشكلة لدى مطلقًا فى أن تساعد مصرُ جيرانها العرب بعلمائها ومهندسيها وأطبائها، فشأن الكبار دائمًا أن يساعدوا ويبذلوا ويمنحوا، ولا ننتظر حتى كلمة: شكرًا! فالكبار لا ينتظرون مقابلاً لما يمنحون. ولكن الآن، الآن تحديدًا، نحتاج برهةً لالتقاط الأنفاس لكى تقف مصرُ من جديد على أقدامها وتبنى ما تهدّم منها على مدى ستين عامًا.
قتلتْ إسرائيلُ، بدم بارد، خمسة من جنودنا المصريين الشرفاء فى سيناء. وكعادتها كلما قتلت أبناءنا تقدم الاعتذار السهل الذى تعلم سلفًا أننا سنرضى به ونمرر الأمر. الآن يجب ألاَّ نقبل هذا الاعتذار السمج، بل علينا استثماره لإلغاء بند مجحف فى اتفاقية السلام بيننا وبين إسرائيل. أقصد بند أن تظل سيناء منطقة منزوعة السلاح. من حقنا الآن أن نمحو هذا البند ونطلب نشر الحماية العسكرية على هذه المنطقة التى شهدت الويل من إسرائيل. ما جدوى حرق علم إسرائيل وطرد السفير والاعتصام أمام السفارة، بينما هناك اتفاقية صارخة وبنود تطبيع مريعة تجعلنا نستورد الخضروات من حقول إسرائيل ونصدر لها الغاز بأبخس الأسعار، بينما يموت مواطنونا فى طابور «أنبوبة» الغاز!؟ لنا الآن أن نوقف هذه المهزلة بشكل عملى يساعدنا على بناء مصر الجديدة والحفاظ على أمننا ومواردنا ودمائنا. قدمنا للعرب الكثير والكثير، ولم يقدم لنا العرب شيئًا. ألم تحن اللحظةُ المناسبة لكى نغلق الباب على أنفسنا لنبنى مصر؟ هل كانت ثورتنا الشريفة فقط من أجل الإطاحة بحاكم فاسد وحكومة فاسدة، أم من أجل التمرد على منظومة كاملة من التهاون فى شرف مصر وشرف المصريين؟ ماذا تفعل إسرائيلُ أو أمريكا حينما يُقتل أحد أبنائها؟ هل تكتفى بحرق علم البلد الذى قتل؟ أم تقيم الدنيا ولا تُقعدها؟ شىء من البرجماتية يا مصر يا حبيبتى. آن لكِ الآن أن تضمى يديك الحانيتين على أبنائك الغلابة الصابرين، أبنائك فقط. الأغرابُ والوسطاءُ يمتنعون.