عندما جاءنى صوتها عبر الهاتف، من خارج مصر، حيث يعمل زوجها، لم أستطع أن أميز كلماتها، ذلك أنها كانت مصحوبة بالبكاء، فأطلب منها أن تعيد ما قالت، فكان أن عرفت أن زوجها، الذى تربطنى به علاقة خاصة، فى حالة غيبوبة منذ فترة لجملة أمراض قاسية، وأن أولى الأمر طلبوا منها أن تنقله إلى أحد المستشفيات فى مصر، بدلاً من أن تتحمل العبء وحدها فترة طويلة، بالخارج، قاست فيها ما يصعب تصوره.
لكن الحزينة، عندما سألت، وجدت أنهم لن يستطيعوا تحمل التكلفة، فسألتنى إن كنت أعرف وزير الصحة لتيسير المهمة، سألتنى ذلك، لأنها، مع البعض، يتوهمون أننى ما دمت أستاذًا كبيرًا فى الجامعة منذ خمسين عامًا، وأكتب فى بعض الصحف، فلابد أن يكون لى نفوذ وعلاقات، وما دروا أن كاتب هذه السطور، يجنح دائمًا إلى العزلة، ومن ثم فشبكة العلاقات الاجتماعية والحكومية ضعيفة. فضلاً على أن المسألة ليست «أستاذية جامعية»، فهذا ليس من معايير التقدير فى مصر، إلا إذا كانت هذه الأستاذية مصحوبة بموقع تنفيذى عالٍ.
قلت لها: إن القوم، عندما يعلمون أنكم كنتم تعملون خارج مصر منذ سنوات سوف يستنكرون علاج الأخ العزيز على نفقة الدولة، فإذا بها تصرخ: أنت تعرف كيف أن تعليم ثلاثة أولاد، فى كليات طب وصيدلة، استنزف عشرات الألوف من الجنيهات، خاصة مع شيوع الدروس الخصوصية، ولما حان وقت زواج بعضهم كان الحصول على شقة، ثم مصاريف الزواج وفتح «بيت»، ما استنزف مئات الألوف، فإذا بكل ما حصلوه يذهب ولا يبقى لهم إلا الستر؟
وأجبت الزوجة الحزينة بأننى أعلم ذلك، لكنى، أتصور موقف الآخرين. قالت: ألم تتحمل الدولة عشرات الملايين لعلاج وزراء ونواب وكبار رجال الأعمال، يكسبون مئات الملايين من الجنيهات؟ قلت لها: ذلك قبل الثورة، لكن الوضع الآن يختلف، وعلى أية حال، سوف أحاول أن أطرق باب وزير الصحة، وإن لم أعرفه ولا يعرفنى.
قالت إن وزير الصحة غالبًا كان أستاذًا بكلية طب، وبالتالى فسوف يقدر «شيبتك» التى تجاوزت السبعين، ولابد أنه فى عمر بعض تلاميذك، فيعمل لأستاذيتك حسابًا!
لقد أخطأت السيدة الحساب وأحسنت الظن، حيث لم أجد تقديرًا لشيبتى ولا احترامًا لأستاذيتى!
طلبت دليل التليفونات لأعرف رقم مكتب الوزير، فأعطونى رقمين، لم يردّا، فطرقت باب عدة صحفيين أسأل عن تليفون مكتب الوزير، فلم تنجح المحاولة، إلى أن تيسر لى الرقم.
عندما اتصلت بمكتب الوزير، بعد جهاد، أطلب موعدًا لمقابلة الوزير، فإذا بالمجيب يقول إن المكتب ليس مختصّا بذلك، وأعطانى رقمًا آخر، هذا اختصاصه، فلما اتصلت به، أيضًا بعد جهاد، أجابنى شخص، بعد أن عرفته بنفسى، بأن علىّ أن أكتب طلبًا بذلك لعرضه أولاً على معالى الوزير، لينظر إذا كان ذلك ممكنًا أم لا!
كدت أصرخ فى الرجل: أكتب طلبًا لمجرد طلب تحديد موعد؟ إن من يريد وزير الصحة فلابد لأمر يتصل بحياة أو موت، والدقيقة، كما لابد لمعالى الوزير أن يعرف، تفرق بين حياة وموت، وتعطف الموظف علىّ بقوله إننى يمكن أن أرسل الطلب عبر الفاكس.. ولولا أنى أعلم أن الفاكس لم يكن موجودًا منذ مائة عام، لتخيلت أننى أعيش قرنًا سابقًا.
ومع ذلك فقد فعلت المطلوب، منذ عدة أيام... وحتى الآن لا حس ولا خبر، وإذا كان العامة قد قالوا «موت يا حمار على ما يجيلك العليق»، فإننى لم أكن أتصور أن يجىء اليوم الذى يعكس تصرف مسؤولى الصحة، تجاه مواطن، أراد أن يمارس حق الشكوى، فما بالكم بحق المواطنة فى العلاج، ففشل، فلمن نشكو وزير الصحة نفسه؟! وهل هو فعلا وزير صحة الثورة، أم ما قبلها؟!