هناك من المفكرين الذين حلموا، واسترسلوا فى أحلامهم، بحثا عن مجتمع المشاركة، والفعالية، والتغيير. من بين هؤلاء «إليكس دى توكفيل» «1805-1859»، وهو عالم سياسة فرنسى شهير درس وتعمق فى التجربة الديمقراطية الأمريكية، وخرج بعدد من الخلاصات أهمها أن مؤسسات المجتمع المدنى «الأحزاب، النقابات، الجمعيات، الخ» هى مدارس تعليم للديمقراطية. يتعلم الفرد فى أروقتها العمل الجماعى، واحترام آداب الحوار، وكيف يمارس دوره ناخبا ومنتخبا، آلية ديمقراطية تمضى، الكل فيها أقران يتعلمون من خبرة تجمعهم معا، وهو ما يشكل رأس مال اجتماعى، فكما أن هناك رأس مال مادى فى شكل منشآت وأموال، هناك رأس مال اجتماعى فى شكل علاقات مهنية وإنسانية تقوم على الشعور بالتضامن والثقة.
أقول ذلك بمناسبة قرب عدد من التجارب الانتخابية النقابية أهمها نقابات الأطباء والمهندسين والصحفيين والمحامين. هذه النقابات شهدت إعاقة لدورها الديمقراطى على مدار عقود فى ظل نظام مبارك الذى أمم النقابات المهنية بقانون 100 لسنة 1993 لحصار التيار الإسلامى الذى انتقل إلى العمل السياسى من خلال النقابات بعد أن سُدت فى وجهه منافذ العمل الحزبى. ومنذ ذلك الحين تحولت النقابات إلى «منطقة صيد» بين التيار الإسلامى والحكومة، وهو ما جاء على حساب العمل النقابى، الذى يقوم فى الأساس على الدفاع عن مصالح أعضاء النقابة، والمساومة الجماعية مع أصحاب العمل، فضلا عن الارتقاء بقدراتهم المهنية. ومن جراء ذلك شاخت النقابات المهنية، وتجمدت، وتحولت إلى مبان خاوية من أى نشاط فعلى.
نقابة الصحفيين خير مثال على ذلك، والمعركة الأخيرة منذ عامين تقريبا على منصب النقيب تثبت ذلك. فقد خاص المعركة ضياء رشوان مدعوما من الصحفيين الشبان، والتيارات السياسية التى آمنت بأهمية التغيير، وكاد يهزم مكرم محمد أحمد المدعوم من الدولة وأجهزتها. ورغم ذلك لم يتمكن الأخير من حسم المعركة من الجولة الأولى، وحسمت من الجولة الثانية بعد تدخل أجهزة الدولة، ورؤساء تحرير المطبوعات القومية فى المؤسسات الصحفية لدعم مرشح الحكومة، الذى لم يعد لديه ما يقدمه للنقابة سوى مشروعات وهمية، وخطب رنانة ضد الإخوان المسلمين الذين يعتبرهم الآن طرفا أصيلا فى الحياة السياسية. وبعد قيام ثورة 25 يناير لم يجد مكرم محمد أحمد أحدا يدعمه ففر من النقابة، فلم يعد هناك حسنى مبارك يؤازره، أو أجهزة الدولة الأمنية، أو رؤساء التحرير الذين يتحركون بأصابع صفوت الشريف لدعمه، وحمل الصحفيين من شتى بلاد العالم جوا- على حساب المؤسسات الصحفية القومية بالطبع- للإدلاء بأصواتهم له فى الانتخابات.
النقابات المهنية، مثل نقابة الصحفيين تحتاج إلى مجالس جديدة تعكس روح المهنة، وتضخ دماء حياة فى شرايينها التى أوشكت على التيبس، حتى تتحول إلى ساحة حقيقية لممارسة العمل الديمقراطى، ويتعلم الناس فى أروقتها الديمقراطية على النحو الذى تمناه «إليكس دى توكيفل». النقابات، شأنها شأن بقية مؤسسات المجتمع الأخرى نالها من الاستبداد جانب، والأوضاع التى بها تحمل بصمات نظام سابق اعتاد إقصاء المعارضين.
كم أتمنى أن تكون الانتخابات الأولى فى كل النقابات المهنية على أساس «قائمة موحدة» تحمل كل التيارات السياسية: الإسلاميين، القوميين، اليساريين، الليبراليين، على أن تقوم خلال فترة انتقالية بإعادة بناء النقابات من الداخل، وإرساء قواعد الممارسة الديمقراطية، والتكوين المهنى، وإفساح المجال أمام روح ثورة 25 يناير. لا مجال للمنافسة السياسية أو الاستقطاب الأيديولوجى فى مرحلة انتقالية نريد فيها إعادة بناء النقابات المهنية حتى تصبح ساحة للتربية الفكرية، وبناء شبكة من الأمان الاجتماعى، وتوفير مقومات مهنية حقيقية لإعادة بناء الطبقة الوسطى التى تعرضت لتآكل منظم فى ظل نظام مبارك، حتى افتقد المجتمع توازنه، وروح الإبداع فيه، والأهم مخزون القيم الذى تحمله الطبقة الوسطى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة