هل تقدم مصر الثورة نموذجًا جديدًا للعالم فى محاكمة المستبدين الذين تم إسقاطهم وفقًا لشروط المحاكمة العادلة والمنصفة؟! أعتقد أن هذا هو التحدى الذى تواجهه السلطة القضائية فى مصر فى هذه الفترة، وبالتحديد محكمة الجنايات التى سوف تحاكم الرئيس السابق حسنى مبارك وحسين سالم والعادلى ورجاله.
التحدى الآن أن الثورة تحاكم رموز النظام السابق الذين أعطوا الأوامر بقتل الثوار، بل كانوا يريدون توريط القوات المسلحة فى الاشتراك فى عملية استمرار النظام فى قمع المتظاهرين، واستخدام القوة ضدهم، ما كان ينذر بارتكاب مجازر لولا حكمة القادة العسكريين وانضمامهم للثورة بالتأييد والحماية.
ورغم جرائمه أثناء الثورة وجرائمه قبل ذلك - بالفساد السياسى والاقتصادى الذى حكم مصر، ونهب ثرواتها وانتهك حقوق شعبها، من الحرية والكرامة، وكذا تمت عمليات النهب المنظم للمزارات المصرية بدعم برنامج الخصخصة الذى حول شركات القطاع العام إلى وسِيّات خاصة وتم بيعها بتراب الفلوس - رغم كل هذا فإنه يتمتع بقرينة البراءة، أى أنه فى نظر القانون والمحاكمة برىء حتى تثبت الإدانة بارتكاب هذه الجرائم، وتوقيع العقاب فى محاكمة عادلة ومنصفة، وبالتالى يترتب على افتراض البراءة أنه يعامل بما يحفظ عليه كرامته وأنه لا يتعرض لأى إهانات أثناء المحاكمة، وأن يتلقى المعاملة الطبية التى يحتاجها.
التحدى الثانى هو أن هذه المحاكمة تتعلق فقط بالجرائم التى ارتكبت فى الفترة من 25 يناير إلى 10 فبراير تاريخ تنحيه عن السلطة، لذلك فهى تتعلق بتهم القتل العمد والاشترك فى القتل عن طريق التحريض بإصدار الأوامر والتكليفات إلى وزير الداخلية باستخدام الرصاص الحى، مما أدى إلى سقوط الضحايا بالإضافة إلى اتهامات أخرى خاصة بأربعة متهمين فقط، وهم حسنى مبارك، وجمال، وعلاء، وحسين سالم، وهى الاتهامات المتعلقة باستغلال النفوذ والإضرار العمدى بأموال الدولة للحصول على منافع وأرباح مالية لهم ولغيرهم، ورغم أن هذه الاتهامات تتعلق ببعض قضايا الفساد المالى، فإن هناك الكثير من قضايا الفساد لم تدرج فى الاتهامات مثل تلك التى حدثت أثناء برنامج الخصخصة، مما يعنى أن هناك ضرورة لبدء التحقيقات حول هذه التهم، وغيرها من تهم الفساد الخاصة بتخصيص الأراضى على السواحل، وطريق مصر إسكندرية الصحراوى، والبحر الأحمر، وغيرها، والتى تمت لمصلحة فئة قليلة وبأبخس الأثمان، والسؤال: هل تسمح هذه المحاكمة بإضافة هذه التهم الجديدة؟ أو أنه من الأفضل أن يتم جمع هذه التهم والتحقيق فيها وضم متهمين جدد من هؤلاء الذين استفادوا منها وأثروا بلا سبب.
إن الهدف من هذه المحاكمة ليس فقط عقاب هؤلاء الذين قتلوا المتظاهرين وعاثوا فى مصر، واستباحوا ثرواتها وأموالها، ولكن أيضًا هى رسالة لكل الحكومات والمسؤولين الذين سوف يتولون المسؤولية فيما بعد، وهنا تأتى أهمية علانية جلسات المحاكمة، والعلانية المقصودة هنا هى إذاعة المحاكمة تليفزيونيّا فهى ليست للتفتيش فى المتهمين، وإنما هى وسيلة لتحقيق الردع العام لكل من يتولى مسؤولية فى هذا البلد من أنه لن يستطيع أن يفلت من العقاب، وأنه سوف يواجه المصير ذاته إذا ارتكب جريمة ضد الشعب أو أمواله العامة.
إن هذه المحاكمة، التى يمكن أن نطلق عليها محاكمة القرن، رغم أهميتها الكبرى، فإنها تظل غير كافية، فهناك ضرورة لمحاسبة سياسية أو محاكمة سياسية لرأس النظام السابق حول انتهاكات حقوق الإنسان على مدى 30 عامًا، تراوحت ما بين انتهاكات فردية، مثل التعذيب، والقتل خارج نطاق القانون، والقبض التعسفى، والاعتقال طويل الأمد، وكذلك إصدار القوانين والتشريعات التى تستخدم لانتهاكات حقوق الإنسان، وبين انتهاكات جماعية، ويأتى على رأسها تزييف إرادة الشعب المصرى فى الانتخابات، هذا التزوير الذى تم إثباته فى تقارير محكمة النقض المصرية بعد كل انتخابات، وكذلك أحكام محكمة القضاء الإدارى، وكذلك إنشاء المحاكم الاستثنائية، وإحالة المدنيين إليها، واستصدار أحكام بالإعدام، والتى يجب اعتبارها قتلاً خارج نطاق القانون أيضًا.
إن هذه الانتهاكات مسجلة فى تقارير منظمات حقوق الإنسان المصرية، بل الدولية أيضًا، ويمكن رصدها وتجميعها لتكون الأساس الذى ننطلق منه فى طريق محاكمة القرن الحقيقية ضد انتهاكات حقوق الشعب المصرى خلال ثلاثين عامًا، هذه هى المحاكمة التى ينتظرها الشعب بأكمله.