ها هو رمضان يطلع على الناس من جديد ويبدو هلاله المشرق الجميل، ويبادر المسلمون فى أقطار الأرض إلى فريضة الصوم لرؤيته، طاعة لله العزيز الحميد، فهل يشعرون مع هذا الهلال بمعنى التجديد؟ وهل يطالعهم هلال رمضان الجديد بعهد جديد؟ إن بين يدى المسلمين فى أقطار الأرض الآن فرصة لا تعوض، فقد تهدمت قواعد المدنيات والنظم، واضطربت أسس الحياة الإنسانية فى كل مكان وراجت سوق الدعوة إلى مبادئ جديدة وآراء جديدة وتهيأت الدنيا كلها لقبول ما يعرض عليها من ذلك، وأخوف ما يخافه المصلحون أن تخطئ الإنسانية الاختيار، وأن تبهرها المظاهر الخلابة، فلا تبصر الحقائق الخالدة، فتسوء العقبى، وينتكس الناس من جديد، وتكون الطامة الكبرى على البشر جميعًا. ويستطيع المسلمون أن يعملوا فى هذا الوقت لأنفسهم وللناس معهم عملا مجديًا نافعًا، بل لعله عمل منقذ حاسم، إذا تشجعوا فطرحوا اليأس والوهم وانتهزوا الفرصة السانحة، فعادوا إلى القرآن الكريم يجددون به دنياهم ويحيون به أمة ويقيمون به دولة.
وكان للسلف رحمهم الله اهتمام خاص بالقرآن فى هذا الشهر الكريم، فكانوا يخصصون جزءًا كبيرًا من أوقاتهم لقراءته، وربما تركوا مدارسة العلم من أجل أن يتفرغوا له، فكان عثمان رضى الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة، وكان للإمام الشافعى فى رمضان ستون ختمة يقرؤها فى غير الصلاة، وكان الأسود يقرأ القرآن فى كل ليلتين فى رمضان، وكان قتادة يختم فى كل سبع دائمًا وفى رمضان فى كل ثلاث، وفى العشرة الأواخر فى كل ليلة، وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان يترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على قراءة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثورى إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن. فهيا بنا نقرأ القرآن ونختمه ولو مرة واحدة فى هذا الشهر الكريم.
فالقرآن أهم وسيلة لترقيق القلوب.. وشحذ الهمم قال وهيب بن الورد: نظرنا فى هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئًا أرق للقلوب ولا أشد استجلابًا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره. وتلاوة القرآن حق تلاوته - كما يقول أبوحامد الغزالى - هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل تفسير المعانى، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزعاج والائتمار.. فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ.
وهذه بعض الوسائل العملية التى من شأنها أن تيسر لنا الانتفاع بالقرآن منها: فى بداية القراءة ندعو الله ونلح عليه أن يفتح قلوبنا لأنوار كتابه وأن يكرمنا ويعيننا على التدبر والتأثر فهذا الدعاء له دور كبير فى تهيئة القلب لاستقبال القرآن (وما يتذكر إلا من ينيب فادعوا الله مخلصين له الدين)، والإكثار من تلاوة القرآن وإطالة فترة المكث معه، ويفضل أن يكون اللقاء بالقرآن فى مكان هادئ - قدر المستطاع - وبعيدًا عن الضوضاء ليساعد المرء على التركيز وعدم شرود الذهن، ولا ننسى الوضوء والسواك قبل القراءة، ويفضل القراءة من المصحف وبصوت مسموع وبترتيل، فالترتيل له وظيفة كبيرة فى الطرق على المشاعر ومن ثمّ استثارتها وتجاوبها مع الفهم، الذى سيولده التدبر لينشأ بذلك الإيمان حينما يتعانق الفهم مع التأثر، ونجتهد فى القراءة الهادئة الحزينة فعلينا ونحن نرتل القرآن أن نعطى الحروف والغنات والمدود حقها حتى يتيسر لنا معايشة الآيات وترنيمها وتدبرها والتأثر بها وعلينا كذلك أن نقرأ القرآن بصوت حزين لاستجلاب التأثر، والفهم الإجمالى للآيات من خلال إعمال العقل فى تفهم الخطاب وهذا يستلزم منا التركيز التام مع القراءة، وليس معنى إعمال العقل فى تفهم الخطاب أن نقف عند كل كلمة ونتكلف فى معرفة معناها وما وراءها بل يكفى المعنى الإجمالى الذى تدل عليه الآية أو الآيات حتى يتسنى لنا الاسترسال فى القراءة، ومن ثمّ التصاعد التدريجى لحركة المشاعر فنصل إلى التأثر والانفعال فى أسرع وقت، والاجتهاد فى التعامل مع القرآن كأنه أُنزل عليك وكأنك المخاطب به، والاجتهاد كذلك فى التفاعل مع هذا الخطاب من خلال الرد على الأسئلة التى تتضمنها الآيات والتأمين عند مواضع الدعاء، وتكرار وترديد الآية أو الآيات، التى حدث معها تجاوب وتأثر قلبى حتى يتسنى للقلب الاستزادة من النور والإيمان الذى ينشأ فى هذه اللحظات، ولا بأس من وجود تفسير مختصر بجوارنا لجلاء شبهة أو معرفة معنى شق علينا فهمه.
نسأل الله العلى القدير أن يجعلنا من أهل القرآن وخاصته، وكل عام وأنتم إلى الله أقرب وعلى طاعته أدوم.