د. بليغ حمدى

محاكمة القرن

الجمعة، 05 أغسطس 2011 10:29 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
منذ ثلاثة عقود كاملة وأنا اعتدت مشاهدة الرئيس المخلوع محمد حسنى مبارك وهو يسير فى أبهة أشبه بخلفاء بنى أمية وبنى العباس، وشأنى كشأن جيلى دغدغت مشاعرهم عبر إعلام النظام السابق؛ صحافة وخطباً رنانة، وبرامج تلفازية موجهة وغير ذلك من الوسائط التى استطاعت عبر ثلاثين عاماً أن تجعل جيلى يقول نعم دونما تردد أو إعادة تفكير.

وكنت منذ سنوات ليست بالبعيدة أقول لبعض طلابى بالجامعة حينما كنت أدرس بها فى عهد بائد لابد من ضرورة الربط بين أحداث الماضى السحيق التى لم نشاهدها رأى العين وبين ما نلمسه بأيدينا ونحن شهود له، وأمر غريب أو مصادفة قدرية أن أشهد ويشهد أبناء جيلى محاكمة رجل حاكم فى شهر رمضان، كنا قد غنينا له طوعاً شئنا أم كرها أغنية (اخترناك)، والغرابة ليست فى المحاكمة وطبيعتها لأننى لم أكن أتصور يوما ما أن أرى حاكماً ينتمى لدول الخلافة العربية الملكية يقبع فى قفص الاتهام ليس بمفرده فقط، إنما الغرابة تتجسد فى مدى تهيئة الفرد وهو يستقبل مشاهد المحاكمة وهو فى مقام الصيام.

والصيام حالة من الهدأة والسكون للجوارح والنفس أيضاً، لذا فالمرء على استعداد تام لقبول ما يستمع إليه أو يشاهده أو ما يلقى إليه من معلومات أو قرارات. وهذا ما حدث للمواطن المصرى والعربى وهو يشاهد فعاليات محاكمة مبارك ونجليه ووزير داخليته حبيب العادلى وكبار معاونيه المتهمين بقتل الثوار الأبرياء.

وعجيب أمر مبارك، ظننت كما ظن غالبية المصريين أن سيهرب خارج البلاد عقب أحداث الثورة الشعبية التى رفعت فيها أحذية الثوار تنديداً ببياناته الليلية، لكنه لم يهرب. وظننت ظن السوء به أنه سيحاولها مرة أخرى عقب إعلان مطالب الثورة فيسافر إلى أية دولة عربية شقيقة أو غير شقيقة تحتضن أيامه الأخيرة إلى أن يشاء الله، لكنه لم يكترث بظنى هذه المرة أيضاً.

وازادت حدة ظنى السىء مرة ثالثة فقلت لها إنه سيحاول الفرار فى المرة الثالثة حينما سيعلن بأنه سيمثل أمام هيئة قضائية لمحاكمته هو ورموز نظامه السابق والساقط لكنه لم يستقل طائرته بصورة سرية، أقصد على طريقة فرار خلفاء بنى العباس أو الأمراء المماليك ومن على شاكلتهم.

وبغض النظر عن سيطرة القوات المسلحة وبعض رجال الأمن الداخلى عليه فى محبسه خشية الفرار، فإن بقاءه حتى مثوله الذى رأيناه صباح الأربعاء يمثل ظاهرة تستحق التأويل والتفسير. فهل حقاً هذا الرجل يتسم بالعناد إلى أقصى وأقسى درجاته الممكنة والمستحيلة؟ أم أنه يحمل حسثيات لا يعلمها إلا هو وحده بأنه برئ من دم الثوار الشهداء؟ رغم أن عدم علمه بقتلهم على أيدى قراصنة محترفين أو بالمعنى المصرى الدارج عربجية البغال والجمال لا يعفيه من تحمل المسئولية باعتباره أعلى رأس فى الدولة التى سقطت ونأمل أن تسقط كل رموزها الفاسدين فى الأيام القادمة؟.

المهم أن مبارك قد ظهر وهلال رمضان لم يكتمل ليصير بدراً فى تمامه، فظهر هو أيضاً ـ مع اختلاف التشبيه ـ فى صورة تشبه بياناته الليلية أثناء ثورة يناير، التى كنا قد أوشكنا على تصديقها ونحن نستمع إليها بجوار زوجاتنا وأمهاتنا وبعض ذوينا من بسطاء هذه الأمة. ظهوره بدا شاحباً باهتا كتلك البيانات الليلية التى من شأنها تعمل على تكريس ثقافة الشفقة والتعاطف مع ملقيها.

لكن الغريب أن هذه المرة لم يصدق شعار تعاطفك لوحده مش كفاية، فكلنا لم يعطف على الرجل وهو ضعيف، وحسب دراستى لعلم النفس أرى أن عينيه كانتا تنظران إلى الحضور وكاميرات التصوير من وراء القضبان فى ترقب وحذر وليس خوف ورهبة، وهذا أمر يستحق الرصد وتأويله. وسنرى فى الأيام المقبلة مئات الدعوات التى تنادى بضرورة الرأفة والرحمة بسن مبارك، متجاهلين فى ذلك غفلته التاريخية المقصودة عن سرطنة المصريين، وتدمير أكبادهم بفيروسات بى وسى، و إلقائهم فى مياه البحث عن لقمة العيش بكلل وتعب ومشقة حتى لا يفكرون فى حاضرهم أو مستقبلهم.

وحسب اتفاق معظم القنوات الفضائية التى نقلت فعاليات المحاكمة من خلال التليفزيون المصرى الذى لم يتخلص بعد من فلول وأذناب النظام البائد فإن المحاكمة أطلق عليها (محاكمة القرن)، وهى بحق محاكمة القرن فمن منا ظن ولو لبرهة قليلة أن حاكم مصر يسجن ويمثل أمام محكمة وهو جالس على سرير طبى يرتدى ملابس بيضاء لأنه على ذمة التحقيق، ليس هذا فقط، بل مقاضاة حاكم هو الذى رسخ وكرس لنفسه نفوذاً وسطوة ونظاماً أمنياً يحميه، لكن رأس النظام الأمنى نفسه ظهر متوشحاً بردائه الأزرق أعنى حبيب العادلى.

نعم محاكمة القرن، أن يظهر جمال مبارك دون شياكته وأناقته ولياقته الرياضية ـ الذى تناولته فى مقالين وهو يرأس أمانة السياسات حينما ضحكت منها وقلت إنها أعظم اختراع بعد الكهرباء ـ ، ظهر وهو لا يزال ينظر إلى ساعة يده ويحدق فيها ويقوم بهزها يميناً ويساراً لا يبتسم، ولا تبدو عليه أية مشاعر حزن أو غضب وكانه خارج للتو من محاضرة للدكتور إبراهيم الفقى، أو جلسة علاجية على يد العالم الدكتور أحمد عكاشة، بدا كصورته الثابتة من أجل أن يحيرنا جميعاً، أهو خارج للتو من محبسه فى طرة؟ أم من نزهة بطائرته الخاصة؟ رحم الله أيام زمان.


ولأنها بحق محاكمة القرن ليس فقط ظهور مبارك فيها، أو حضور جمال مبارك المحاكمة وهو بالمصحف الشريف، إنما أيضاً لرؤية أبناء هذا الشعب العظيم لوزير الداخلية السابق حبيب العادلى وهو برداء أزرق كبقية المسجونين لا حول له ولا قوة، وكأن الله تعالى أراد أن ينجيه ببدنه اليوم ليكون عبرة للجميع، لجميع من سنحت له الفرصة فى القضاء على كرامة المصريين، ولجميع من غلبته شهوة القمع فقمع وقتل وسفك وهتك عرض أمته وشعبه.

وأقسم أننى لم أشمت فى مبارك ونجليه لاسيما ابنه الأكبر علاء الذى يحبه الكثير من المصريين دونما سبب أو لسبب، إنما فرحت عندما رأيت وزير الداخلية وهو يتلفت فى ترقب بمحبسه الحديدى، ولا توجد أدنى علاقة بى وهذا الرجل، إنما مثلى كمثل المصريين الذين عانوا من بطش وقمع بعض رجال الأمن الذين انتقلوا وخدمتهم إلى رحمة الله، وله الحمد من قبل ومن بعد.

تحية إلى شهداء الثورة فلولاهم ما سمعت مبارك المخلوع يقول: أفندم أنا موجود، ولولاهم ما رأيت جمال مبارك بعيداً عن غطرسته وغروره، ولولاهم ما رأيت وزير البطش والقمع وقتل المتظاهرين العادلى. عدلك يا عدل.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة