أصيب قطاع كبير من الصحافة المصرية بأزمة مهنية حادة عقب ثورة 25 يناير، نجاح الثورات فى إسقاط رأس النظام يوم 11 فبراير، أسقط الكثير من الخطوط الحمراء أمام الصحافة والصحفيين، سقف الحرية ارتفع، صحيح أن هذا السقف كان مرتفعاً منذ سنوات، وكانت هناك خطوط حمراء يتم تجاوزها، لكن ذلك كان ينطوى على مغامرة ويتطلب تضحيات من يقدم على هذا التجاوز، لكن بعد الثورة لم يعد الأمر كذلك، صارت الحرية حقاً للجميع ومتاحة للكل، وكانت الحرية قبل الثورة أقرب إلى حرية الصراخ، وكان المبدأ الحاكم هو اصرخوا واكتبوا ما يحلو لكم وسنفعل - نحن - ما يحلو لنا وما نريد، وأظن أن حدة الصراخ نبهت الكثيرين وشجعتهم للخروج يوم 25 يناير.. الآن لم نعد بإزاء حرية الصراخ، لكنها حرية يمكن أن تؤدى إلى فعل وإلى خطوات عملية فى الواقع وعلى الأرض.
لكن الصورة ليست وردية تماماً، فقد افتقدنا التدقيق فى المعلومات، ولم يعد بعضنا يدرك الخيط الفاصل بين المعلومة ومن ثم الخبر وبين الشائعة، أى ما ليس بمعلومة ولا خبر.. والنموذج الناصع على ذلك هو ما شاهدناه يوم الأربعاء فى جلسة محاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك.. هو لم يظهر منذ خطابه البائس يوم الخميس 10 فبراير 2011، فقد اختفى فى منتجعه بشرم الشيخ ثم المستشفى، وطوال هذه الشهور، ونحن نتابع أخباراً يومية ومانشيتات صحفية، فى صحف قومية عريقة، وأخرى مستقلة أو حزبية، تتحدث عن الحالة الصحية للرئيس السابق.. وبات مشتركا فى هذه الصحف أن الرئيس السابق فقد شهية الطعام وأنه فقد نصف وزنه تقريباً، وأنه يعانى من حالة اكتئاب حادة، وتم الإلحاح على ذلك بالنشر، حتى بات الأمر يأخذ شكل الحقيقة المسلم بها، ورغم ذلك فلو فتشت فى هذه الأخبار عن مصدر واحد يمكن أن تثق به أو تعتمد عليه، فلن تجد وأحيانا يضفى بعض زملائنا قدراً من النكهة فى صياغة الخبر، فينسبه إلى «بعض المقربين»، وقد ظهر الرئيس السابق يوم المحاكمة، لنكتشف أن كل تلك «الأخبار» كانت مجرد اجتهادات لا تستند إلى أى معلومة، وهى أقرب إلى التوقع أو التخيل، رجل فقد الحكم والمنصب وسجن نجلاه ويهاجم ليل نهار فى الصحف، وهذا يعنى بالضرورة عند بعضنا الإصابة بالاكتئاب وفقدان الشهية للطعام.. إلخ، لكن مبارك ليس كذلك، من تأمل ملامح وجه مبارك يدرك أنه به قدر من السمنة أى زيادة الوزن، وهو نائم على السرير، لكن لم يتوقف عن الكلام مع ولديه، وبين حين وآخر يهم أن يرفع رأسه يريد أن يرى ويتابع ما يحدث، حركات يديه وأصابعه وطريقته فى الكلام هى.. هى، لم يتغير شىء فيه، وهذه كلها ليست ملامح مكتئب، هو منتبه تماماً ويقظ، ورفض التصوير نهائياً وهو فى طريق خروجه من القفص، ولم يتمكن أحد من رؤيته وهو ينزل من سيارة الإسعاف، وبالتأكيد تلك كانت رغبته، وهذه كلها تجعلنا نقول إنه هو، بشحمه ولحمه، لم يتغير فيه شىء.
وإنكاره للتهم تماما يكشف اقتناعاً عميقاً لديه بأنه لم يرتكب خطأ ولا جرماً، ومن قرأ التحقيق معه، كما نشر على صفحات هذه الجريدة، يتأكد من ذلك، فإجاباته تلقى التهم على مساعديه، الذين فعلوا وارتكبوا كل شىء دون أن يرجعوا إليه، حتى إنه فوجئ يوم الأربعاء 2 فبراير، بمظاهرة فى ميدان التحرير ويجرى بها جمل، عرف هذا من شاشة التليفزيون وقال بوضوح إن أحدا لم يكن يستمع إلى كلامه، وهذا يعنى اقتناعه بأنه كان ضحية، ومن ثم مجنى عليه، إنكاره هذا ليس مجرد تلقين محامين، كما رأى البعض، لكنه اقتناع تام لديه، وهذا يجعله يشعر بأنه نال جزاء سنمار، ولم يلق التقدير الذى يستحقه، ومن ثم يرتفع أمام نفسه، ويلعن الآخرين، وبهذه التركيبة لا يمكن أن يكتئب ولا أن يفقد شهيته للطعام، بل ربما تزداد لديه الرغبة فى الحياة ويزداد عنده الإصرار على مواجهة الآخرين، كما حدث فى بيانه بقناة العربية.
يقتضى الأمر منا، نحن جماعة الصحفيين، أن نقف مع أنفسنا موقفا نقديا ونراجع بعض ما سنقوم به، لنرد الاعتبار إلى قواعد المهنة وتقاليدها، بأن نفرق بين ما هو خبر وما هو «شائعة»، ودورنا أن نبحث عن الأخبار وأن نجتهد فى الوصول إلى مصادرها، وإذا لم نتمكن فلا نحيل توقعاتنا وتصوراتنا إلى أخبار نوهم بها القراء والرأى العام.
إذا كان سقوط مبارك درسا سياسيا وتاريخيا مهما لبعضنا، فإن ظهوره على هذا النحو فى قفص الاتهام هو درس مهنى، ليتنا نتأمله.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الولايات الإسلامية المتحدة
الولايات الإسلامية المتحدة
عدد الردود 0
بواسطة:
om -moaz
شكرا
كلام واضح وحيادى شكرا لك.
عدد الردود 0
بواسطة:
الجمهورية الإسلامية المتحدة
الولايات الإسلامية المتحدة
عدد الردود 0
بواسطة:
lolo
اين المصور
ياريت المقالة كانت فى المصور