من البديهى أن فعلًا بحجم الثورة المصرية العظيمة لابد أن تشوبه الأخطاء والارتباكات التى يتصاعد حجمها بقدر ما تحقق من انتصارات.. والثورة المصرية تنتصر طبقًا لأى تحليل علمى واقعى رغم كل ما تواجهه من مقاومة ضروس ومؤامرات فجة ومحاولات لا تيأس لجرفها عن مسار شعاراتها النقية التى رفعتها ودافعت عنها منذ اليوم الأول، ومن هنا تأتى محاولتنا لتأمل مسار الثورة واضعين فى اعتبارنا:
> أن انتقاد بعض مسارات الثوار لا يعنى على الإطلاق أى درجة من التعالى أو التعالم أو ادعاء الحكمة أو حتى القدرة على الانفصال بأى درجة لرؤية ما يحدث، ولكنه محاولة مخلصة لبيان ما يتم تداوله بين الكثيرين من الأصدقاء دون محاولة لصياغته وكشفه للمناقشة الحرة والشفافة.. فالثوار الحقيقيون لا يخجلون من أخطائهم بل يرحبون بمن يصارحهم طالما خلصت النوايا واستقامت الأغراض.
> أن التسليم بحقيقة أن ثورة 25 يناير كانت بلا زعامة وأن هذا كان أحد أسرار قوتها فى البداية- بدأ الآن موازيا لحقيقة أخرى وهى أن غياب القيادة الفاعلة للثورة يشكل - بدرجة متزايدة - أزمة كبرى قد تتحول إلى كارثة فقدان مسار الثورة الصحيح أو اختطافها الكامل وسط متربصين بها بالداخل والخارج، فثورة بلا زعامة لا يعنى أنها ثورة بلا رأس أو بلا فلسفة تحكم سلوكها وأدبياتها وأداءها على أرض الواقع، أو على الأقل لا يعنى ذلك أنها ثورة بلا ضمير يقظ قادر على التمييز بين الصديق والعدو والمتربص.
> أن استدعاء «روح الثورة» الذى تجسد أيام الثورة الأولى رفضا للتباينات الفكرية والأيديولوجية ونبذًا للعصبية وحب الزعامة وتغليبا للمصلحة الوطنية العليا على ألاعيب السياسة وبواعث الانتقام لقوى طال اضطهادها- هذا الاستدعاء لم يعد، ببساطة، سهلًا ولا متاحًا لأسباب لا داعى لتفصيلها، ولكن لابد من التسليم بأن هذه الحكمة الجماعية الغامضة التى كانت تقود الثورة بشكل مبهر حتى انهيار أسس الدولة غابت الآن تماما، ولم يعد أى فصيل - مهما صغر حجمه وعدد أفراده - يرضى بديلًا عما تم الاتفاق عليه إذا ماخالف ذلك تفصيلا فى خطته أو أفكاره، وانتشرت الرؤى البسيطة «لدرجة السذاحة أحيانًا» واختلطت بها ترهات فوضوية واختراقات أمنية لأجهزة تدربت جيدا على مهارات التسلل داخل التنظيمات لإجهاضها والقضاء عليها وهى مهارات لابد من الاعتراف بأننا نرى نتائجها واضحة فيما نراه الآن وما نعايشه من أحداث.
وطالما أن استدعاء هذه الروح أصبح مستحيلًا فالبديل لابد أن يكون مؤتمرا عامًا لكل قوى الثورة الحقيقية تكون قاعدته أوراقا تعد بعناية وتجرد تدعو للمصارحة التامة بلا حساسيات ومن ثم الاتفاق على شكل حاسم من أشكال قيادة هذه الثورة لتحقيق أهدافها على النحو الذى يرضى دماء الشهداء..
وقبل إعداد هذه الأوراق كأساس لهذا المؤتمر العام أرى أن الاعتراف الذاتى بالأخطاء ضرورة قوية قبل أن يكون فضيلة أخلاقية، ومن هذه التجاوزات:
> ليس هناك ثورة بلا مسؤولية عن سلوك الثوار، ولا يمكن أن تكون الديمقراطية داخل الفعل الثورى مبررًا لفرض الرأى الذى استقرت عليه الأغلبية سواء فى الأهداف العامة للثورة أو فى الصياغات التعبيرية، وفى سلوك الأفراد على أرض الواقع، وهذا مالم يتم احترامه أبدًا فى الأشهر الثلاثة الماضية إما بدعوى عدم إغضاب أهالى الشهداء «الذين تم اختراقهم فوجدنا بعضهم يعمل مع الشرطة فى فض الاعتصام» أو بدعوى حق الجميع فى الاعتصام الذى لا يمكن مناقشته وهو الأمر الذى ينتهى عمليًا بضرورة وجود أى نوع من التوحد حول الحد الأدنى من التنظيم الذى يكفل استمرار الثورة فى تحقيق أهدافها ويحصنها من المؤامرات والاختراقات التى منها:
- الاعتصامات بأعداد صغيرة غير مؤمنة والإصرار على ذلك وإتهام الرافضين لذلك بالخيانة أو افتقاد شجاعة المواجهة!!
التصعيد الأهوج الذى ينزع عن الثورة طابعها السلمى الذى كان سببًا رئيسيا فى نجاحها مثل غلق مجمع التحرير ومحطات المترو ومنع السيارات من المرور بإلقاء الحجارة عليها.
- التصعيد غير المتفق عليه بالاتجاه لوزارة الدفاع والوقوع فى كمين الشرطة العسكرية والبلطجية.
- التصعيد المريب يوم الجمعة الماضى الذى قطع بوجود اختراق خطير فى صفوف الثوار أدى إلى اقتحام السفارة الإسرائيلية وحرق السيارات ومحاولة اقتحام مديرية الأمن والداخلية ومحاولة جر الثورة إلى مسار غير سلمى ينزع عنها الطابع الروحى الذى تميزت به واكتسبت قوتها الدافعة من الالتزام به.
إننا هنا لا نتجاهل عامدين دور الفلول والبلطجية وبقايا النظام بل بعض أركان الإعلام الحكومى والخاص فى دفع عناصرها لتخريب العلاقة بين الثورة ورصيدها الجماهيرى وبين الثورة والجيش «رغم كل تحفظاتنا على أداء المجلس العسكرى وتحالفاته»، فالجيش جيش الشعب المصرى وسيظل كذلك وطنيًا مخلصًا يحمى تراب هذا الوطن ويدافع عن حقه فى الحياة والحرية والكرامة.. ولكن هذا موضوع آخر.. الآن فلنبدأ بأنفسنا.. مؤتمر عام لقوى الثورة.. لا مكان فيه للقوى العتيقة «التى جربناها مرات» والمتحالفة مع قوى التخلف المحتكرة للحقيقة والتى لا تناضل إلا لتحقيق رؤى عفا عليها الزمن، لا تنشغل لحظة بمصير هذا الوطن الطامح إلى مكان يليق به وسط عالم لا يكف عن الحركة إلى الأمام، محطما كل تقديس للأفكار الجامدة والأيديولوجيات المحنطة البائسة.