هكذا قال كمال صليبى منذ نحو ثلاثة عقود، فثارت ضجة فى الأوساط الدينية، وتجاوزت حتى إلى الأوساط السياسية، رغم أن قائلها كما بدا شديد البعد عن السياسة، وكانت المقاومة للكتاب شديدة حتى قبل صدوره بالألمانية وقبل ترجمته إلى عديد من لغات العالم، بينها العربية بالطبع وهى اللغة الأم للمؤلف، وقيل فيما قيل - ولست متأكدًا من ذلك - إن دولة استطاعت تأخير الكتاب عامًا كاملًا.
ما قاله كمال صليبى كان غريبا ومدهشًا وغير متوقع، وأيضًا صادمًا، رغم أنه لم يكن شخصية صدامية كما أكد معارضوه، وهم قلة، ولم نكن منهم للأسف، ولطالما تمنيت أن أعرفه، أو على الأقل أعرف عنه. ولكن ما أعرفه حتى هذه اللحظة لا يشفى غليلى.
كان رأى كمال صليبى أن النصوص التوراتية لم تكن أبدًا فى فلسطين، بل كانت فى قرى وبلدات تقع فى شبه الجزيرة العربية وفى وقت مبكر من التاريخ، وساحة الأحداث كما صورها الأستاذ الأكاديمى - أو كما تخيلها - كانت غير الساحة التى عرفناها منذ الصبا، وليس فى جيلى من لا يعرف خريطة فلسطين قبل أن تشوهها الدولة الإسرائيلية، وهناك من يحفظون «نشيد الأنشاد» الذى لسليمان، أو شيئًا منه، إن لم يكن من التوراة مباشرة، فهو من الطبعة التى قدمها توفيق الحكيم.
ودلل كمال صليبى على نظريته بأصول الكلمات ومعانيها فى اللغات القديمة الباقية والمندثرة، وهو الأمر الذى لم يستوعبه جيدًا أمثالى من الذين يؤمنون بالتاريخ وبمصادره من وثائق وآثار وشهادات. ما لفت نظرنا بشدة هو ما أشار إليه الكاتب حول طلب يوسف من أخوته أن يأتوا بأبيهم يعقوب ليسلمهم أخاهم، الذى هو أيضًا أخوه الشقيق، وإن لم يعلموا ذلك، ويبدو من القصة التوراتية أن المسافة ليست كبيرة جدًا، أى أنها كما دلل كمال صليبى مسافة معقولة من الممكن قطعها مشيا أو على دواب بين بلد اسمه مصر، «ليس هو مصر التى نعرفها»، وبلد اسمه فلسطين «ليس هو فلسطين التى نعرفها»، وعزز هذا الرأى أن الأب العجوز الذى فقد بصره حزنا على أن الذئب أكل يوسف ابنه المقرب إليه ذهب مع أولاده إلى بعيد. وكنا نهتم بأن الفرعون التوراتى الذى أشار كمال صليبى إليه ليس هو فرعون ملك مصر، فراعنة مصر كانوا مئات من أسر متتالية، وبعضهم كان صالحًا، وبعضهم كان طالحًا، وليس كل فرعون كان طاغية.
فهناك مثلا إخناتون أول من نادى بالتوحيد، ومينا الذى وحد مصر، وأحمس الذى حررها من الهكسوس.. وغيرهم.
ولم يتحدث كمال صليبى فى السياسة، وكان يحق له أن يفعل، فهو فى بحثه يهد المعبد على الأوهام الصهيونية، ولماذا لم يفعل؟ سؤال صعب الإجابة عنه، فنحن لا نعرف إلا أقل القليل عن الرجل. عرفنا أنه أستاذ فى إحدى الجامعات الألمانية، وأن دراسته الأساسية هى اللغات القديمة التى استخدمها فى دراسة تاريخ الديانات السماوية حتى أصبح من أبرز مؤرخيها، ولكن من المؤكد أن كمال صليبى لم يكن نجما يتناقل الناس أخباره مثل نجوم الأدب والفن والسياسة، بل كان باحثا فريدا فى مجاله، أدواته له وحده، وإشكالياته هى شاغله، لم يسع إلى شاشة أو صحيفة أو حتى مؤتمر، ماهو شخصى عن هذا الرجل قليل.. قليل.
وفى بداية هذا الشهر عرفت صدفة أن الدكتور كمال سليمان الصليبى قد توفى، وسعيت لأن أعرف أكثر فعرفت أنه توفى يوم 1 أغسطس وأن عزاءه وجنازته وتأبينه كان فى الكنائس الإنجيلية والروم الكاثوليكية وأنه دفن فى بحمدرن الضيعة، معلومات صماء كأنها تتحدث عن لا أحد.
ولا تظن أن كل ما قدمه كمال صليبى للمكتبة هو كتابه المدهش «التوراة جاءت من الجزيرة العربية»، بل كانت له أيضًا كتب أخرى ربما كانت أهم مثل كتابه: «البحث عن عيسى» وكتاب آخر عن إبراهيم والد الأنبياء. ولن تسعنى الذاكرة بما هو أكثر، وربما لم تصلنا أشياء أخرى.
وكنت فى الغربة عندما عرفت بوفاة كمال صليبى، وربما كان هذا ما زاد إحساس الوحشة لهذا الرجل المدهش، تمنيت أن أعرفه أكثر وأن أقترب منه أكثر، ولا أظن أنه كان يبالى بهذا، فهو رجل كان يسير بعيدًا عما يقربه من الناس، وحتى كتابه عن لبنان وطبيعته لا يدخل أبدًا إلى عالم السياسة.
كمال صليبى بما كتبه حرك عقولنا، وكفى فضلا له أنه صنع هذا ولن نبكى عليه فنحن لا نعرفه، وإن نكن نأسى للعلم الذى حرمنا إياه.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
حسام الالفى
تخريف
مناقض للدين والمنطق والتاريخ
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmad abdelaziz
أستاطير
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
الصليبي
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmad abdelaziz
أساطير
عدد الردود 0
بواسطة:
علي سالم
ا.محفوظ
عدد الردود 0
بواسطة:
الفرعون
انت جاى مع مين ؟ وعايز تقول ايه؟
عدد الردود 0
بواسطة:
عبدالعزيز الغامدي
السلام عليكم
عدد الردود 0
بواسطة:
محب
لرقم 2 ومكرر ahmad abdelaziz 4
عدد الردود 0
بواسطة:
مهندس/عادل حلمى
كمال صليبى
عدد الردود 0
بواسطة:
تامر أبو الخير
من هو كمال صليبي