ودارت الأيام على رأى الست أم كلثوم حتى أكملت سبعة أشهر على ثورة يناير، وسط الجدل الدائر بين النخبة من الثوار والسياسيين، حول شكل محاسبة رجال النظام الساقط، هل نحاسبهم فى محاكمات سياسية سريعة، نغلق بواسطتها عهدهم وتوابعه أم نحتكم إلى القضاء الطبيعى ونتحمل ألعاب المحامين وطول الإجراءات وما ينجم عنهما من ردود أفعال لا يمكن حسابها ولا التنبؤ بالمدى التى يمكن أن تصل إليه!
طبعا، كلنا نعرف ما حدث واعتمد المجلس العسكرى والحكومة مبدأ المحاسبة من خلال القضاء الطبيعى، بناء على نصائح المستشارين الذين أكدوا أن المحاسبة ليست فقط هدفاً فى ذاتها، وإنما هى وسيلة فى نفس الوقت لتأكيد الشفافية كطبيعة للمرحلة الجديدة التى تشهدها مصر بعد الثورة، ومنح البلد فرصة كبيرة لاستعادة أمواله المنهوبة فى بنوك أوروبا والولايات المتحدة وجزر البهاما وكيمان والخليج العربى أى فى أركان المعمورة الأربعة.
وطبعاً كلنا نضحك الآن فى سرنا وفى العلن من بساطة هذا التصور ومثاليته، فمن ناحية، لا يعترف القضاء الطبيعى بالظرف الاستثنائى الذى تمر به ولا بضغوط الرأى العام ومطالبه بالانتهاء من ملفات رجال النظام السابق ولا بالمشاق التى واجهتها النيابة العامة من حيث الكم الهائل من القضايا والبلاغات وضرورة التحقيق فيها فى وقت واحد، ومن ناحية ثانية لم نتوقف عن مطالبة القضاء بالإسراع فى الفصل فى القضايا المنظورة أمامه، وكأننا نطالبه بأن يتجاوز فى إجراءاته الصارمة وأن يحكم بما نعتقده نحن يقيناً من فساد رجال النظام السابق وكأنه محاكم سياسية خاصة.
وكلما أمعن القضاء المصرى المشهود له بالنزاهة فى تطبيق معاييره المستقلة مدافعاً عن نزاهته وإجراءاته الكفيلة بإقامة المحاكمات العادلة، بما فى ذلك منح الفرصة كاملة لمحامى المتهمين المفسدين من رجال النظام السابق، رأينا فى ذلك مطاً وتطويلا فى نظر قضايا نراها محسومة سلفاً.
من ناحية ثالثة أصبحت استعادة الأموال المصرية المنهوبة فى أركان الأرض الأربعة مسألة مشكوكاً فيها إلى حد كبير، فهى تحتاج إلى قرارات مشتركة وتنسيق بين الأجهزة والسلطات فى البلاد المنهوبة والبلاد التى استقبلت النهب، وهذا لا يتم إلا بالتراضى والتفاهم والتقاسم أحياناً، وليس بالضرورة بواسطة الأحكام القضائية النزيهة والدليل الحى أمامنا يتمثل فى عودة الأموال الليبية بالمليارات حتى قبل أن يسقط الأخ العقيد، وقبل أن يختلف الثوار على محاكمته سياسياً أم قضائياً.
ما أريد قوله إننا اخترنا السير فى طريق القضاء الطبيعى لحسم ملف العهد البائد ورجاله، لتحقيق مجموعة من الأهداف منها الفصل النهائى والسريع فى مصيرهم وإغلاق ملف هذا العهد واستعادة أموالنا المنهوبة وبداية عهد جديد، لكننا فى حقيقة الأمر، لم نحقق أياً من أهدافنا، واستسلمنا لردود الأفعال السلبية الناتجة عن طبيعة إجراءات القضاء العادى التى لا ترضى الرأى العام وخسرنا بسبب ردود الأفعال هذه مليارات قد تعادل أموالنا المنهوبة فى زمن قياسى لا يتجاوز سبعة أشهر، كما خسرنا وحدة الصف التى تحققت بفضل الثورة بعد تفاقم ألعاب بهلوانات السياسة ومحامى المتهمين من رجال مبارك، ولم نغلق ملف العهد البائد، بل عاد كثير من هؤلاء من خلال الأحزاب الجديدة ليخرجوا لنا ألسنتهم وهم يسيرون باتجاه حصانة أول برلمان بعد الثورة، والأنكى الأكثر إيلامًا أن قطاعات واسعة من الناس بدأت تفقد إيمانها بما تحقق بفضل الثورة واستسلمت تدريجيا للاستقطاب الطائفى والسياسى، فهل يمكن أن نتوقف الآن ونغير التراك الذى سرنا فيه؟
هل نستطيع الآن أن نفتح صفحة من المحاسبة السريعة والحاسمة لرجال النظام السابق لوقف نزيف الخسائر الاقتصادية والسياسية والإسراع نحو العهد الجديد المنشود؟
هناك رأى معقول يقول إن علينا الحصول على أموالنا المنهوبة فى الداخل أولاً ووقف نزيف خسائرنا فى الداخل قبل أن نفكر فى استعادة أموالنا المنهوبة فى الخارج، ولن يتحقق لنا ذلك قبل الفصل السريع فى مصير رجال النظام السابق ومصادرة أملاكهم كلها لصالح البلد فوراً ودون أى إبطاء، كما أن هناك رأيًا معقولا يشير إلى أن تعويض الخسائر الناتجة عن الشحن السياسى فى المظاهرات والاعتصامات الناتجة عن ظهور رجال مبارك مبتسمين أمام الكاميرات أو تهديدات أحمد عز وشركاه بوقف الاستثمارات فى مصر، سوف تعوض كثيرًا من الاستثمارات التى نبحث عنها فى الخارج دون جدوى، والقروض التى نلجأ إليها من الأغراب والأشقاء، والأهم من ذلك التأكيد على انتهاء عصر المشاحنات واللجوء للميادين وبدء عهد العمل والإنتاج والخطط الخمسية للنهوض.
السؤال الآن، هل اكتشف السادة أعضاء المجلس العسكرى والحكومة الموقرة أن المحاكمات السياسية فضيلة؟ وإذا كانوا اكتشفوا فهل يرجعون خطوة باتجاه الفضيلة باعتبارها الحق؟ نسأل الله أن يفعلوا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة