فى 28 سبتمبر تحل الذكرى الواحدة والأربعون على وفاة عبدالناصر، والأولى بعد ثورة 25 يناير، وقد ارتفعت مكانة وأهمية الرجل لدى أغلبية المصريين بغض النظر عن اختلافهم حول إيجابياته وسلبياته.. فالناصرية تظل قابعة فى خلفية المشهد السياسى الحالى، حيث تستدعى بوعى أو بدون وعى عند المقارنة بالمخلوع وفساده، وبارتباك وتردد المجلس العسكرى فى الحكم، لكنها من النادر أن تستدعى لتأمل حال الناصريين.لكن الناصرية تختلف كثيرا عن الناصريين، الأولى انتعشت بعد ثورة يناير، حيث استعادت قيم الجمهورية والاستقلال الوطنى والعدل الاجتماعى والعزة والكرامة مكانتها، وهذه القيم هى الجوهر الأصيل للناصرية. ومن هذه الزاوية تعتبر الناصرية امتدادا طبيعيا وتطورا كيفيا لقيم وثوابت الوطنية المصرية التى تبلورت عبر نضال الشعب المصرى منذ عرابى وحتى مصطفى النحاس.
أما الناصريون الذين شاركوا فى ثورة 25 يناير فقد خرجوا بعدها أكثر انقساما وتشرذما، وبدوا على العكس من قيم الناصرية ومثلها العليا مجرد جماعات متصارعة على مكاسب سياسية وإعلامية محدودة للغاية وتتعارض مع الميراث الحقيقى للناصرية.. والحقيقية أن الناصريين فى مصر وخارجها عجزوا عن هضم وتجديد تراث عبدالناصر وتجديد الناصرية، لذلك فإن خلافات وصراعات كثيرة من الجماعات والأحزاب الناصرية تدور بعيدا عن الأفكار والسياسات وترتبط باختلافات شخصية وبتوزيع مكاسب مادية أو معنوية، وهذه الحالة الصراعية بددت كثيرا من طاقتهم وأساءت إلى صورتهم – وربما للناصرية أيضا - وأبعدتهم عن الناس فعجزوا عن تجنيد عضوية جديدة، بل إن بعض الناصريين المخلصين ترفعوا عن هذه الخلافات والصراعات الوهمية فاعتزلوا العمل السياسى.
هل يعقل أن يكون فى مصر خمسة أحزاب تدعى تمثيل الناصرية؟ أتذكر أن الأستاذ هيكل قال عبارة مدهشة فى آواخر السبعينيات، أغضبت وقتها الناصريين، قال: لا أظن هناك ناصرية لكن بالقطع هناك ناصريين، ويبدو أن هيكل قصد منها أن يجتهد الناصريون فى بلورة وتجديد الناصرية حتى يمكنها أن تواكب العصر وتحدياته، لكنهم لم يستمعوا للرجل رغم تقديرهم وتبجيلهم الشديد لكل ما يقول. وظل الناصريون يجترون تجربة ومقولات عبدالناصر دون محاولة تقديم نقد وتقييم موضوعى للتجربة الناصرية أو التفاعل مع الواقع المتغير وصياغة رؤية واستراتيجية جديدة تؤسس برنامجا سياسيا شاملا. ويلاحظ أن هذا المنهج السلفى الجامد أصاب الوفد والإخوان ليشكل ما يعرف فى الحياة السياسية المصرية بسلفية الفكر السياسى. فالوفديون يجترون أفكار ومقولات سعد زغلول ومصطفى النحاس، والإخوان توقفوا عند مقولات وأفكار حسن البنا بل وحتى رؤيته التنظيمية. القصد أن القوى السياسية الكبرى -الوفد والناصريون والإخوان- والتى تصارعت واصطدمت بقوة فى الخمسينيات أصابها الجمود الفكرى والسياسى، كما وقعت فى مرض التمجيد المبالغ فيه لشخصية الزعماء المؤسسين وأفكارهم، لذلك تجاوزتهم معطيات الواقع السياسى والاجتماعى وتحدياته، خاصة بعد ثورة يناير، فظهر أكثر من حزب سياسى للإسلام السياسى ولليبرالية الوفد ووطنيته، وأغلب هذه الأحزاب الجديدة تتسم بالحيوية والقدرة على التجديد وطرح أفكار جديدة، حتى إن كثيرا من الباحثين الجادين يتوقعون اختفاء كل من الوفد والإخوان أو على الأقل تراجع مكانتهما، لصالح الأحزاب الجديدة التى تحمل المشروع الإسلامى أو الليبرالى ولكن فى صياغات جديدة أكثر مواءمة للعصر ولمصر بعد ثورة يناير.
لكن الناصرية لم تجد تمثيلا جديدا لها، أو ربما لم يظهر حتى الآن كيان سياسى قادر على تجديد الناصرية والتعبير عن القيم الأساسية التى طرحتها وجسدتها. من هنا فإن السؤال الذى يطرح نفسه، هل هناك ناصرية لكن لايوجد ناصريون؟