بدون مبالغة أو نقصان، يقدم خالد صالح شخصياته فوق الشاشة، وكأنه يتعامل بميزان من الذهب، له أسلوب خاص فى دراسة العمل المزمع بدايته، القضية عنده ليست شكلية، وليست مجرد ماكياج وديكور، خالد صالح منذ بداياته الأولى وهو يرسم لنفسه خريطة واضحة المعالم، لما سوف يسير عليه.. ولهذا ففى كل عمل جديد يقدمه لابد أن تجد بصمة جديدة وروحاً جديدة ورؤية خاصة غير المعمول بها فى العمل السابق له.
ولعل أبرز عمل تتأكد فيه هذه المفردات مسلسل «الريان» الأكثر تألقًا فى مسيرته الدرامية التى تشكل شكلا بيانيا متصاعدا.. هذه الشخصية - أحمد الريان - من الصعوبة بحيث تشكل الدخول فى الدراما المعقدة، فهى شخصية تمتلك كل مقومات الوصول إلى أسرار الآخرين واقتحام عالمهم، بخليط عجيب ما بين البساطة والدهاء والمكر وتغيير خطط التعامل معهم فى الوقت المناسب بما يلائم الوصول إلى أفضل الحلول.. ومن هنا وصل سريعاً إلى مشروع قلب موازين الاقتصاد المصرى.. نجح خالد صالح فى تجسيد شخصية الريان لسبب آخر غير الذى قيل عنه، وهو الدخول فى أصغر تفاصيل تنعم بها هذه الشخصية بحيث عرف كيف يتوغل بهدوء إلى أدق ملامح شاب بسيط بدأ حياته طالباً فى كلية الطب البيطرى حتى وصل به المطاف إلى أن يكون متسيداً لنظام مالى غيّر من ملامح سوق المال فى مصر.. ومن هذا المنطلق أيضاً يتأكد لنا أن خالد صالح لا يتصالح مع الشخصية المراد تقديمها.. بل ربما يتعارك معها ولا يتواصل ولا يرضى بأن يقدم عملاً بأسلوب الأصل والصورة أو بأسلوب الكربون والفوتى كوبى.. بل هو يقدم الشخصية التى تتحاور وتصطدم بكثير من المعطيات.. وخالد صالح لم يصل لهذه المكانة بسهولة فهو ينحت فى صخر منذ ما يقرب من ربع قرن.. كافح من أجل الوصول إلى شخصية مميزة فى عالم الدراما.. وثقف نفسه بنفسه بالاطلاع على أهم مصادر الدراما والإبداع ومطاردة الروايات العربية والمسرحيات والدواوين.. فهو مثقف شامل متنوع بدأ سلم طموحه وفى ذهنه كيف يكون فناناً ذا هدف ورؤية وحتى حينما كان يخفق فى عمل فنى، تحس فى الحال أنه أكثر توهجًا فى العمل اللاحق.. ورغم هذا النجاح فإن البساطة لا تزال هى الصفة السائدة فى حياته الشخصية، فقد استوقفنى فيه حينما أتحدث إليه أنه ابن البلد البسيط ورغم ظروفه الصعبة التى مر بها إلا أنه لا يزال هادئًا، يحمل ملامح وتواضع العارفين فى مجاله.. هذه الصفات جعلته لا يرضى بأى عمل يقدمه إلا أن يكون من لحم ودم وبدون تذويق أو ورق سوليفان، وهو حريص منذ بداياته أيضا على أن يدمج بين الأكاديمية كأسلوب تشخيص وبين المشاعر الإنسانية العادية التى تصنع دراما فى خلايا العمل الفنى، لم يستسلم يومًا لحوار مكتوب تخدعه فيه عناصر التشويق الجماهيرى أو الإبهار الذى يعاظم فنانًا عن الآخر، أو كم الإفيهات التى تلتصق بالسيناريو وتعطى جوا من الحميمة والدفء والالتصاق بالبسطاء من الناس.. ولكنه لا يمانع من كل ذلك فى حالة أن تكون كل هذه العناصر من عمق العمل وليست دخيلة أو هى مجرد ديكور فنى براق وهو حريص على أن يكون من جذور العمل الفنى تلك التى ترتقى بدمائه وتنمو سيقانها بسائله السحرى الناضج القابض فوق كل زوايا رؤية جديدة تعبر عن عمل مميز، وإذا كانت أعمال خالد صالح قد بهرتنا منذ بداياته فإن أحدا لا ينسى «سلطان الغرام»، قصة صعود عامل بسيط أسرته هى كل حياته، حتى صار من ذوى الأموال الكثيرة، التى نقلته من مجتمع مغلق طيب متسامح قد يصل إلى حد التفانى، إلى عام مفتوح شرس لا يتسامح ولا يقبل أى عرض، وإلى نساء أخريات غير اللاتى عرفهن فى عالمه المغلق، تغير «سلطان» وتحول إلى كائن آخر حائر بين القديم والجديد وفى كل مشهد كنت أتحدى به أنه سيكون منطلقاً كأنه رائد فضاء يهبط فى جزيرة الإحساس والذات العميقة التى بداخلها كل أفراح وأحزان الناس، فى فيلم «عمارة يعقوبيان» انتحى منهجا آخر حيث كانت كل الظروف مهيأة للثورة والجماهير المصرية ثائرة على الفساد وعلى كم المخالفات التى انتشرت فى ثلاثين عامًا كانت كافية لتدمير البنية التحتية لمجتمع طيب، بل تصاعدت إلى أن دمرت الإنسان وغيرت من أخلاق الشباب وظهرت شخصية كمال الفولى، التى جسدها خالد صالح فى رواية عمارة يعقوبيان، ليشير إلى أحد كبار الحيتان الذين ابتلعوا طموحات الشباب الطيب وفتح لنفسه بابا للفساد لم نجد مثله على مر العصور وقد لا نجد مثله فى بلدان أخرى، أقل تطوراً وحضارة منا.. وعاش الشباب مع الشخصية وعرف أن خالد صالح يعمل لأجلهم ويستخرج من أحزانهم، ما يرصد أحلام أمة كاملة.. أما رواية «صانع السعادة» للكاتب عاطف بشاى.. فقد كانت ملحمة حب وصفاء مع النفس ورؤية فلسفية ترصد حكاية رجل كفيف كل ما يحلم به أن يسعد الآخرين.
فإذا كانت أزمة الناس هى الآخرين، وكيف نتخلص منهم، إلا أن متعه خالد صالح فى هذا العمل الدرامى الصعب هو كيف يكسب الآخرين ويعالج أزماتهم ويحقق المعادلة الصعبة فى أن يكون صانعًا للسعادة فى مجتمع عز فيه الفرح.. ليكون فى أحداث أعماله التى كانت تاجًا على رأس دراما 2011 مسلسل «الريان» كان قريباً من كل الجماهير المصرية والعربية.. اندمج خالد فى كل جزئيات الشخصية حتى نطقت به وانطلقت بنا جميعاً إلى واحدة من أهم القضايا التى عشناها فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى.. عشنا فيها وتدخلت جهات عديدة لإفساد سير عمل هذا الوضع الذى أتفق على تسميته بتوظيف الأموال.. كانت شخصية أحمد الريان بارة فى الوصول إلى خفايا الأشياء وهو طبيب بيطرى فى الأصل.. واصل طموحاته حتى صار قدوة للشباب.. ثم سقط سقوطاً درامياً لم يتخيله أحد.. وفى كل سطر من سطور هذه الملحمة الدرامية التراجيدية كان خالد صالح فى قمة انفعالاته وقمة حالاته.. بطلا أسطوريا شديد التميز، إنه نموذج لا أجد أن أقارنه بأحد فوق أى مقارنات، هو أيضا فوق أى انفعالات مصنوعة.. فإذا عدنا إلى السينما نجد واحداً من أهم أفلامنا المصرية الحديثة، هو آخر ما أخرج المخرج العالمى يوسف شاهين.. فيلم «هى فوضى»، خرج علينا خالد صالح بشخصية رجل الشرطة القاسى المستبد الذى يستغل منصبه فى إفزاع الناس والوصول إلى أغراضه بأى وسيلة، حتى يصل فى النهاية بعد أن أطلق الرصاص على عشرات الأبرياء.. أن يطلق رصاصة الرحمة على نفسه.. متخيلا أنها رصاصة الرحمة.. إلا أنها رصاصة الغضب ضد كل شىء بدءًا بالعشوائيات المقهورة وصولاً إلى عام المهمشين القادمين من كل فج ومن كل نجوع فى مصر الطيبة.. هذا هو حال خالد صالح.. إنه يقدم لنا من روحه ومن دمه فنًا يعيش.. وليس مجرد شخصيات ترسم له ويقدمها دون دراسة وعمق ورؤية خاصة جداً.. وأنا أتمنى أن يظل باستمرار متألقاً دون تعال.. فأنا أثق أن الغرور لن يصادقه فى يوم من الأيام.. وأترقب أعماله القادمة أن تكون فى تصاعد مستمر وألا يتخلى فيها عن الطموحات والتحديات.
محمد فودة
محمد فودة يكتب.. بعد نجاح «الريان».. خالد صالح وقيمة الوصول إلى الهدف
الإثنين، 26 سبتمبر 2011 05:17 م
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة