لا أفهم كيف أطال، والبعض واستطال فى الحديث عن «هيبة الدولة» وأهمية استعادتها حينما أراد المجلس العسكرى تفعيل قانون الطوارئ، بينما تغافلوا أن هيبة الدولة الحقيقية تداس كل يوم وتنتهك بشكل سافر على قارعة الطريق، فمن وجهة نظرى فإن هذا الانتشار الأسطورى للزبالة فى الشوارع «يمرمغ» بكرامة الدولة وهيبتها فى التراب، فإن كانت «هيبة الدولة» لا تتحقق إلا فى إعطاء الأمن حرية البطش تحت ستار الاستقرار، فإنى أرى أن «خيبة الدولة» تحققت بالفعل فى إعطاء الزبالة هذه الحرية الكبيرة فى الانتشار.
والآن وقد احتلت الزبالة الشوارع، ولم يبق لها إلا أن تخرجنا من البيوت، فإنى لا أرى أن المجالس والمؤسسات التنفيذية، وشركات النظافة الأجنبية هى الملومة وحدها، وبرغم أنى أحمّل كل هذه الهيئات والمؤسسات المسؤولية المباشرة عن هذه الكارثة المخجلة، لكنى أرى أن هناك سببا أقوى لها، بل أجزم بأن السبب الأول فيها هو الانفلات الأمنى، وتكاسل رجال الشرطة المحصنين بالسيد وزير الداخلية منصور العيسوى، وتبريراته غير المنطقية لأخطائهم، وقبل أن تتهمنى بأنى «ألفق» التهم لجهاز الشرطة، وألصق به كل مصائبنا، دعنى أشرح لك وجهة نظرى فى انتشار الزبالة بهذا الشكل، وفى الحقيقة فهذه أول مرة فى حياتى أرى ارتفاع أكوام الزبالة يصل إلى ستة أمتار، ولذلك أعتقد أن ما نراه يوميا ليس زبالة فقط، وقد يكون ليس زبالة إطلاقا، لكنه فى الحقيقة مخلفات بناء وهدم، وإن لم تكن تصدقنى فتأمل جيدا فى أى «مقلب زبالة» وستجد أجولة المخلفات، وما بها من «كسر» طوب ورمل وبلاط، تملأ المكان، وما أن يلقى حاملو المخلفات بها فى أى مكان يتحول بقدرة قادر إلى «خرابة» بفعل تراكم الفضلات والقاذورات عليه من كل جانب.
تقريبا لم يكن لهذه المخلفات وجود حينما كان للشرطة أثر فى الشوارع والأقسام، وذلك لأن حركة البناء فى القاهرة كانت مقيدة بموافقة الحى وإشرافه، كان من لا يلتزم بهذا القيد يدفع غرامة كبيرة، تصل أحيانا إلى السجن، بالإضافة إلى هدم البناء، كما كان الحى يشرف على عملية التخلص من مخلفات البناء بصورة آمنة، وأذكر أن محافظ القاهرة كان يغلظ عقوبة من يلقى بهذه المخلفات فى الشوارع لتصل إلى سبعة آلاف جنيه، وإيقاف السيارة التى يتم ضبطها تلقى القمامة فى الشوارع، أما الآن، فلا حى يعمل، ولا محافظة تراقب، ولا شرطة تعاقب، مع العلم أن مراقبة «الخرابات» لبعض الوقت، وتنفيذ القانون على النزر اليسير من مرتكبى هذه الجريمة، سيجعل هذه الظاهرة تختفى تماما فى أيام معدودة، بل ومن الممكن أن نستفيد بإعادة تصنيع هذه المخلفات، وبيعها بمبالغ كبيرة.
أعرف أن الخطأ ليس خطأ الشرطة وحدها، وأعرف أن المسؤولية تقع على عاتق المجتمع كله، كما يتحمل المستوى الثقافى المتردى جزءا لا يستهان به من المشكلة، لكن للأسف لم يقم النظام السابق بواجبه فى العمل على الارتقاء بالمستوى الثقافى، ووضع الأمور كلها فى يد الشرطة الباطشة التى كانت تحكمنا بالحديد والنار، وجعل الخوف من الشرطة عند البعض أكثر فاعلية من الخوف من حساب الله وازدراء المجتمع، لذلك فالانفلات الأمنى هو المسؤول الأول عن هذه المشكلة تماما، مثل مسؤوليته عن تعطل المرور لمجرد أن «توك توك» عطلان فى نفق إمبابة بجوار القسم، أو سيارة راكنة صف تالت بجوار وحدة تراخيص ومرور شبرا.