للأسف الشديد، يمكن القول بكثير من اليقين إن شبح حسنى مبارك ونظامه البائس مازالا يحومان فوق سماء القاهرة حتى هذه اللحظة، وأدلتى على ذلك كثيرة، لكننى اليوم سأتوقف عند واحد منها فقط، والمتمثل فى الخبر المحزن الخاص بإقدام السلطات المصرية على إقامة جدار عازل أمام السفارة الإسرائيلية بالجيزة بهدف حماية السفير وسفارته من غضب المصريين المتأجج ضد عدو متغطرس يقتل جنودنا بدم بارد ويرفض حتى تقديم الاعتذار!
فى البداية أود أن أشير إلى أن واقعة إنزال العلم الإسرائيلى من فوق السفارة ورفع العلم المصرى بدلاً منه لم تكن هى الحل الأمثل لمواجهة جبروت الدولة العبرية وعنجهيتها، على الرغم من أنها كانت تعبيراً شعبياً أصيلاً عن النقمة التى تعترى ملايين المصريين ضد أحفاد وأبناء هرتزل وبن جوريون (راجع من فضلك ما كتبته فى هذا المكان حول هذا الموضوع بتاريخ 23/8 الماضى).
المفارقة المثيرة للغضب والحزن معاً هو أن حكومتنا (الثورية) سعت إلى إرضاء إسرائيل بعد هذه الواقعة، فشرعت تبنى لها جداراً عازلاً يحمى سفارتها من "هياج" الشباب ضدها، فى الوقت الذى لم تتورع فيه تركيا عن طرد السفير الإسرائيلى من عاصمتها، والوصول بالتمثيل الدبلوماسى إلى حده الأدنى احتجاجاً على العدوان الإسرائيلى على السفينة مرمرة التى كانت ضمن أسطول الحرية الذى كان فى طريقه إلى غزة المحاصرة العام الماضى، والذى راح ضحيته آنذاك تسعة أتراك.
لم تعتذر إسرائيل لحكومة تركيا على جريمتها، فرفضت أنقرة العجرفة الإسرائيلية، وأوقفت المناورات العسكرية التى كانت ستجرى بينهما من ناحية، فضلاً عن أنها قررت إرسال سفن حربية تركية لمرافقة السفن التى ستنقل مساعدات إلى غزة الفلسطينية من ناحية أخرى، حتى لا تستطيع إسرائيل مواصلة البلطجة البحرية وفقاً لما قاله دبلوماسى تركى!
حسناً.. هذا ما فعلته تركيا دفاعاً عن قتلاها، على الرغم من العلاقات المتينة التى تربط أنقرة بتل أبيب منذ عقود، بينما نحن، وبعد ثورة عظيمة أطاحت بكنزهم الاستراتيجى حسنى مبارك، عجزنا عن أن نلقّن إسرائيل درساً بسيطاً فى أصول التعامل الدبلوماسى بعد أن قتلت عمداً خمسة من جنودنا البواسل.
طالبناها بالاعتذار، فلم تستجب! اندلعت المظاهرات منددة باتفاقية كامب ديفيد وشروطها المجحفة، وبضرورة طرد السفير الإسرائيلى، فلم ننجح! بل قامت السلطات عندنا بصفع الشعب المصرى وإهانة مشاعره الوطنية بإقامة جدار عازل يحمى السفارة ومن بها!
أنت تعرف وأنا أعرف تقاليد التعامل الدبلوماسى بين الدول، وأنه من الواجب أن تحافظ الدولة وتحمى سفارات الدول الأخرى الكائنة على أراضيها، ومادامت مصر السادات قد وقعت معاهدة مع إسرائيل، فيجب احترامها وحماية سفيرها، وسفارتها إلى حين يقضى الله أمراً كان مفعولاً، كل هذا معلوم ومفهوم، ولكن أما كان من الممكن أن تنقل سفارة العدو إلى مكان بعيد خارج أطراف القاهرة بدلاً من احتلالها الموقع الاستراتيجى الحالى على نيل الجيزة؟ أما كان من الأنسب أن تقترح السلطات المصرية على إسرائيل أن تختار مكاناً قصياً لإقامة سفارتها حتى تمتص الغضب الشعبى المتنامى ضدها؟
أدرك تماماً أنه لا مستقبل حميد للدولة الصهيونية فى منطقتنا العربية، وأن السنوات المقبلة ستشهد ذبول هذه الدولة واضمحلالها، ولكن إلى أن تأتى الساعات الحاسمة هذه يجب أن نضع إسرائيل فى حجمها الطبيعى، فلا نتركها تعتدى علينا من دون عقاب، كما يجب أن نسعى الآن وفوراً إلى تعديل اتفاقية "السلام" الموقعة بيننا بما يخدم مصالحنا فى المقام الأول، لأنها ليست قرآناً ولا إنجيلاً وفقاً لتعبير عمرو موسى!
حقاً.. ينبغى أن نصنع أشياء كثيرة للحفاظ على سيادتنا وكرامتنا واستعادة حقوقنا، لكن إذا سألتنى لماذا لا يبادر من يحكموننا الآن إلى اتخاذ القرارات اللازمة لتنفيذ ذلك، سأخبرك بأسى: لأن شبح حسنى مبارك وزبانيته مازالوا يحومون فى سماء القاهرة!